التي تمشي على حرف الكلمة : عهدية أحمد وتجلي الصوت النبيل

د. عبد المنعم همت
ثمّةُ أصوات تمرّ في حياتنا كما يمرّ الضوء في المرايا المكسورة: متكسرة، مرتعشة، سريعة الزوال. وثمّة صوتٍ، حين يُسمع، لا يُسمع، بل يُقام له مقام في الوجدان، ويُنسج له سياق في العقل. عهدية أحمد ليست من أولئك الذين يتكلمون لأن الكلمة متاحة، بل من الذين يسكتون لأن المعنى لم يكتمل بعد.
لا تنتمي عهدية إلى جوقة الأصوات التي تتكاثر كلما غابت الرؤية. لم يلقِ بها الحظ إلى مقدمة المنصة، ولم تخرج من هوامش الدعاية ولكنها ضرورة صامتة في زمنٍ كثر فيه المتكلمون وقلّ فيه القائلون. حضورها أشبه بما لا يُقال، بما يتعذّر حصره في تعريفات ضيقة، أو أوصاف معتادة. هي تلك الطبقة من المعنى تُدرك بالبصيرة، وتُتذوّق كجملة نادرة في كتاب الحياة.
حين تسلّمت عهدية مقاليد جمعية الصحفيين البحرينيين، لم تدخل قاعة المؤسسات لتزيّن صورة نمطية عن «المرأة في الموقع» لقد حضرت إلى المكان كمن يعيد تعريف المفاهيم، لا كمن يعيد ترتيب الكراسي. كانت مهمتها أبعد من إدارة الشأن المهني، كانت محاولة لردّ الاعتبار إلى جوهر الإعلام، إلى شرطه الجوهري: أن يكون قولًا في وجه القبح، لا صدى له.
ليست عهدية في مواقفها كائنًا مسكوناً بالرغبة في المجابهة، إنما كائن يتقن فنّ التوازن بين الحزم والاتزان، بين المسافة والمشاركة، بين الوجود والانحياز. كانت وما زالت تعرف أن الخطاب الذي لا يُصاغ من داخل الصراع لا يُمكنه أن يغيّر خارجه، وأن الإيماءة أحيانًا أبلغ من الخطبة، وأن الصمت، في بعض اللحظات، أصدق من البيان.
وعهدية، إذ تعبُر في المشهد الإعلامي الخليجي والعربي، لا تعبُر بوصفها “امرأة تتقدم”، ولكن بوصفها معنى يُستعاد من بين الأنقاض: معنى أن تكون الكلمة مسكنًا للكرامة، لا مسرحاً للاستعراض، وأن يكون الصوت أثرًا في الزمن، لا مؤثرًا صوتيًاً في مشهد مُعاد.
مواقفها من قضايا السلام والسيادة، من الصراع والوعي، نتاج وعي مترسخ، يرى العالم كشبكة مصالح وقيم، ويتعامل مع المصطلحات كأنسجة قابلة للتأويل الأخلاقي والفلسفي معاً. وقد كان خروجها من المنصب لحظة اكتمال، لا انكسار. لحظة بدا فيها أن المكان، مهما اتسع، لا يتسع للذين تجاوزوا الأدوار وأصبحوا رموزًا للمعنى المتعالي عن الوظيفة.
في سيرتها، تتجاور طبقات من الفكر والتجربة والذوق. تبدو كمن يكتب نصّه من دون استعجال، ويرسم لغته كما يرسم الشاعر منحنيات صوته الداخلي. ليست صوتاً في زحام الميكروفونات، فهي صدى لحقيقة لا تحتاج إلى تضخيم، ولا تقبل الاختزال.
إن عهدية، بهذا التصور، ليست نموذجًا للمرأة “الناجحة”، كما درجت العبارة المستهلكة، وللامانة فهي تجلٍّ لإنسان أدرك أن النجاح ليس في المراتب،أدرك أن النجاح في ما يتبقى من أثر بعد الصمت، في ما يُروى عنك حين لا تكون حاضراً، في الطريقة التي يذكرك بها الزمن.
هي لحظة وعي تُدرّس، وتجربة متأنية يمكن أن تُقرأ كنصّ متكامل من الإصرار والنباهة والكرامة.وفي زمنٍ تتفكك فيه القيم تحت وطأة السرعة، وتتحلل فيه المعاني أمام سطوة الشكل، تبقى عهدية أحمد شاهدة نادرة على إمكانية الجمع بين الذكاء والضمير، بين الرصانة والتأثير، بين السكينة والموقف.
ولأن العظماء لا يُقاسون بما بلغوه من ألق، ولكن بما أنقذوه من المعنى، فإن عهدية ستظل حاضرة حيثما يُفتقد الصدق، وحيثما يُبحث عن صوت يُشبه نفسه، لا يُشبه السوق.
نحن _السودانيون_ في مملكة البحرين نشكر د.عبد المنعم همت على هذا المقال الجميل والذي يعبر عن عمق محبتنا لشعب البحرين الذي اكرمنا كثيرا ولحمومة البحرين التي احتوتنا .
استاذة عهدية ذات تاثير ولها تقدير كبير.
شكرا همت