المقالات والآراء

كرامة مستعارة وتحالف يتآكل من الداخل

 محمد هاشم محمد الحسن.

لماذا تتصدع التحالفات في بورتسودان؟ وهل الحرب حقًا من أجل الكرامة أم لتوزيع الغنائم؟ ومن يعبأ اليوم بالمواطن الذي يُقتل باسم كرامته؟

منذ بدء الحرب السودانية، ظل الخطاب الرسمي لمعسكر الجيش وحلفائه يرفع راية الكرامة والدفاع عن الدولة في وجه التمرد والانفلات، لكن مشهد الخلافات المتصاعدة داخل بورتسودان، لا سيما حول تشكيل الحكومة الانتقالية، أزاح القناع عن جوهر المعركة الحقيقية. فكلما تعثرت مشاورات التشكيل، وكثرت التصريحات المتبادلة بين الفاعلين، بات جليًا أن هذه الحرب، بما تحمله من شعارات وطنية، ليست سوى صراع سافر على تقاسم النفوذ والامتيازات، تجري على أنقاض معاناة المواطن الذي لم يحضر إلا كشعار في المواجهة، لا كأولوية في الفعل.

كامل إدريس، الذي طُرِح اسمه رئيسًا للوزراء، تحوّل منذ الأيام الأولى لتكليفه إلى عنصر توتر داخل التحالف بدلًا من أن يكون نقطة التقاء. لم يكن لافتقاره إلى الحاضنة السياسية فحسب، بل لأن تكليفه تم من خارج أي عملية تشاورية، ما أضعف صورته وجعله أقرب إلى شخصية بروتوكولية تسعى لإرضاء قوى متنافرة أكثر من تقديم مشروع إنقاذ وطني. سرعان ما تحولت المشاورات إلى سوق مفتوحة للمساومات، حيث طالبت ميليشيات موالية للجيش بنصيب وافر من وزارات الريع الاقتصادي.( المالية، المعادن، الطاقة). احتجّت حركات تقليدية كجبريل ومناوي، وتمسكت بـ(استحقاقها)، بل طالبت بمنصب نائب رئيس مجلس السيادة، وصرح عقار بتوجهة الى حق تقرير المصير اذا تم المساس بإتفاق جوبا فاشتد الصراع، وتعطلت كل محاولات التوفيق.

داخل هذا المشهد المتأزم، بدأ برهان يعيد ترتيب أوراقه. سُحبت صلاحيات حيوية من وزارة المالية التي يديرها جبريل، وتمت إقالة وجوه محسوبة على الحركات، وبدأت دوائر في التحالف تصرح بوضوح، (لقد انتهى دور جبريل ومناوي، واستهلكوا كل رصيدهم، ويجب طردهم). ولم يكن هذا إلا تتويجًا لنهج استخدمهم كمجرد منديل سياسي مؤقت، أُدِّي فيه دور رمزي، ثم أُلقي به في سلة المهملات حين لم يعد نافعًا. خرج مناوي يهدد ويتوعد، لكنه بدا معزولًا، بينما لم يعد جبريل يملك ورقة ضغط سوى التمسك بمقعد تم تقليص صلاحياته يومًا بعد يوم.

الأخطر أن هذا الانهيار الداخلي جاء في وقت توجّه فيه محمد حمدان دقلو بكلمات محسوبة إلى الحركتين وقال نحن لا مشكلة لنا مع مناوي وجبريل، وإن أتوا اليوم فمرحبًا بهم. هذه العبارة لم تكن دعابة سياسية، بل رسالة تكتيكية لضرب المعسكر الخصم في خاصرته الرخوة. إنها مغازلة غير بريئة، تهدف إلى فتح ثغرة استراتيجية في تحالف يترنح أصلًا بين هواجس الاحتواء ومخاوف الانشقاق.

كل ذلك يجري في ظل واقع اقتصادي وإنساني بالغ القسوة، حيث تتساقط المدن تحت الجوع والتهجير والبطالة، بينما تتصدّر واجهة المشهد مفاوضات لتوزيع المناصب والحقائب. المواطن الذي وُعد بأنه جوهر الحرب، اختفى تمامًا من المعادلات السياسية، لا موازنة خدمية طُرحت، ولا خطة عودة نازحين نوقشت، ولا خطاب واحد صدر يُبشّر بحياة أفضل. الكرامة المعلنة تبدو مستعارة، تُستخدم شعارًا للشرعية، بينما تُهمّش حقوق الناس وتُبتلع أصواتهم خلف صخب السلطة.

ومن خلال قراءة المشهد كما يتطور على الأرض، تتضح ملامح بنية سياسية تتآكل ذاتيًا، أكثر مما تتعرض لضرب من الخارج. التناقضات البنيوية في تحالف بورتسودان لم تُحل، بل جرى ترقيعها بصفقات لا تدوم، وتحالفات قائمة على ضرورة اللحظة لا على مشروع جامع. صمت القوى الصاعدة داخل التحالف، وتصدّع الحلفاء القدامى، يُنبئ بأن هذا البناء لن يصمد طويلًا في وجه أول هزة سياسية قادمة، خصوصًا إذا فشل إدريس في تشكيل حكومته، أو أُجبر على الاستقالة.

لم تعد البلاد بحاجة إلى عبارات عن الحكمة السياسية أو نوايا الإصلاح. فالحقيقة الجارحة أن السلطة الحالية لا تسير في اتجاه معالجة جذور الحرب، بل في تعميقها باسم الوطنية. كل طرف يُريد (الدولة) لنفسه، لا للوطن، ويخوض الحرب تحت راية الكرامة لكنه لا يقيم وزنًا لكرامة المواطن ولا لكرامة المعنى. وفي هذا الفراغ الذي تتكلم فيه البنادق وتفاوض فيه الولاءات، يبدو أن الأزمة الحقيقية ليست في من يحكم السودان بل في من لا يستحي أن يحكمه هكذا.

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..