ثقافة وآداب، وفنون

لا نحتاج الى الكهرباء في قريتنا! قصة قصيرة

في ومضة حلم تدافعت فيه صور ذكريات منسية، رأيت نور الدين، رأيته يسير خلف أمه الطيبة، يحملان جوالات الخيش الفارغة ويذرعان البلدة النائمة في غبار الفضة، بحثا عن غذاء لثروتهما الصغيرة من الضأن والماعز، يواجهان عسف المزارعين الذين لا يسمحون لأصحاب البهائم بالدخول الي مزارعهم: لأنّ قطع الحشائش الصغيرة يجعل زراعتهم تعطش سريعا، يتجولان من مزرعة الي اخري حتى يقبل أحدهم بدخولهم الي حواشته.

تمضي بهما كانت الايام، تكاد كلها تتشابه مثل حلقة أبدية دون نهايات، في المرة الاولي حين رأيت نورا، كان معنا عمال في البيت يقومون بحفر بئر، حين دخلت الي البيت وجدت امرأة من جيراننا تساعد امي في صنع الاكل، كانت تجلس الي الفرن الحديدي وهي منهمكة في صنع خبز القرّاصة، وبدت لي بلونها الفاحم وكأنها جزء من الفرن الاسود الضخم، لاحظت انها تصنع (القرّاصة) بطريقة غير التي اعتدنا عليها مع والدتي، بعد ان تضع العجين فوق الفرن كانت تقوم بفتح أبواب فيه كل بضع ثوان لتختبر ان كان العجين قد نضج من الداخل، بدت لي تلك الطريقة مستهجنة وغير حضارية واعلنت أمامها:

هذه المرأة لا تعرف كيف تصنع القرّاصة!

كانت تلك إهانة لا تغتفر من شاب غر وصل للتو من العاصمة ولا يعرف شيئا عن العالم الحقيقي، لحسن الحظ أنها لم تفهم أو تكترث لما قلت فقد كنت اتحدث من طرف أنفي بخليط من الفصحى ولهجة العاصمة، وبعد سنوات حين أصبحنا اصدقاء قالت لي انها حسبت انني كنت آنذاك اتحدث الإنجليزية، فقد كانت هي تتحدث اللغة النوبية. تذكرت قصة قريب لنا ذهب ليدرس في جامعة الخرطوم ولدي عودته في اول عطلة دراسية كان يتحدث العربية بطلاقة عاصمية، وحين يسأله الناس باللغة النوبية عن الاحوال في العاصمة كان هو يجيب بالعربية الفصحى، حتى ان أحد جيراننا تساءل قائلا:

(الولد دة بقي شيوعي ولا شنو؟)

مضت حياتهما على نفس الوتيرة حتى بعد ان دخلت الكهرباء الي القرية، منتصف الثمانينات، جاء بعض اهل القرية الذين يعملون خارج الوطن، واشتروا محركا صغيرا لإنارة القرية وطلبوا من الناس انشاء جمعية تعاونية تتولي إدارة الوابور وتحصيل التكلفة بفرض مبلغ من المال على كل بيت شهريا.

وقف أحد جيراننا المسنين معترضا على مشيئة التغيير، ودافع عن وجهة نظره بأنّ الكهرباء ستفسد الاولاد!

واشتكت إحدى جاراتنا ان ديوكها لبثت مستيقظة طوال الليل في اول ايام الكهرباء، معتقدة ان الشمس نسيت ان تغرب او انها غربت ثم اشرقت بعد قليل في منتصف الليل. وقال جار آخر كان يعاقر الخمر وضوء القمر: ان الكهرباء قد تجلب لنا الشرطة والمشاكل!

وقال النور: ان الظلام أفضل. فضحك حاج الطيب وذّكره أن كراهته للكهرباء تناقض اسمه!

وفي حين كانت الاجتماعات تنعقد وتنفض مضت وتيرة حياتهما دون تغيير يذكر، واستمرت مشاويرهما اليومية بحثا عن الحشائش للضأن والماعز، وحين جاءت الكهرباء قالت نورا: نحن لا نحتاج اليها لأننا ننام حينما يأتي المساء.

وقال نورالدين: ربما يرسل لنا أخي ساتي جهاز تلفزيون نري فيه الناس الذين يعيشون في العالم الآخر. وكان يقصد الاحياء لا الموتى في العاصمة القومية، لم تخف نورا خوفها من الكهرباء فبسبب حيل إغراء الحياة العصرية هجر ابنها الأكبر القرية، وقبل سفره كاد يصيب نورا بالجنون حين ركب طائرة بعثة أجنبية تنقّب عن الآثار في المنطقة، كان ساتي يعمل معهم احيانا، انطلقت الطائرة الى السماء وانطلقت نورا تصرخ وتعدو في القرية محاولة تتبع طائر الموت الذي خطف ابنها، وحين هبطت الطائرة عائدة كانت نورا فوق سقف أحد مخازن الحبوب، على وشك الاقلاع من خلف الطائرة بجناحين صنعتهما على عجل من بقايا شراع مركب، تبخرت الواقعة من ذاكرتها ليحتفظ بها ساتي كمجد أوحد في حياته كان يعلنه حين يذّكر الناس كل مرة أنه كان أول من ركب طائرة في الإقليم وربما الوطن كله، كان يقول: (وكت أنا ركبت الطيارة، شيخ الزبير في السماء ما شافها!)

ولنساعدها في الدخول الى العولمة، ذهبت انا وأخي وقمنا بتركيب لمبات كهربائية في بيتها على قواعد من الخشب بدلا من اللمبات الباهظة الثمن، التي جاء أحد سماسرة الكهرباء يسحبها من خلفه بمجرد ان أطلت الكهرباء بوجهها.

قال حاج الطيب: بفضل الكهرباء ستختفي العقارب التي تلدغكم كل يوم وتلدغ أطفالكم!

وضحك الجار الذي كان يعاقر الخمر وضوء القمر وقال: إذا اختفت العقارب سيفلس شيخ عثمان!

وكان شيخ عثمان يحصل على رزقه من علاج من تلدغهم العقارب! مستخدما في ذلك بعض الأعشاب والعقاقير غير المعروفة. وكان البعض يشيعون أنه يقوم سرا بتربية العقارب واطلاقها في شوارع القرية ليلا، لتلدغ الناس فتتوفر لديه فرص العمل والرزق!

قال صدّيق الذي اشتهر بلقب صديق المزارع، لأنه كان يخلد للنوم كل يوم ولا يذهب للحوّاشات الا بحثا عن الأنس معتمدا في عيشه على ما كان يرسله اخوه المغترب في السعودية، وكان يردد دون مناسبة القول الشهير: تجري جري الوحوش غير رزقك ما تحوش، ورغم انه لم يكن يجري مطلقا الا انه كان يحوش ما يكفي بقاءه على قيد الحياة، اضافة لمؤونة من التبغ المحلي القمشة، كان يبرزها في شكل نعمة مغشوشة حين يقوم بلفها في الورق في البيت ويضعها في صندوق سجائر البنسون الفارغ الذي يضعه بفخر في جيب جلبابه الشفاف.

قال: الكهرباء أفضل حتى يتعلم الناس عدم النوم مبكرا مثل الدجاج!

فقال له شيخ النور الذي قرر تغيير اسمه الي شيخ الظلام:

نحن لو قاعدين ساكت زيك ما كنا بننوم نهائي. على الاقل كنا بنقوم الليل، وما زي قيامك بالعرقي!

وفجأة أعلن السر النجّار وكان مشهورا بحبه للنقاش دون هدف وبحبه على السيطرة على دفة أية نقاش برفع صوته فوق أصوات الجميع ربما تعويضا لقصر قامته الذي لا يتيح للكثيرين رؤيته في الزحام: يا اخوان انا عندي اقتراح!

ما ان بدأ السر النجّار يشرح اقتراحه حتى برز خيط عنكبوت خفيف في الغرفة التي سجي وابور الكهرباء داخلها.

كانت الاجتماعات تنفض وتنعقد حول وابور الكهرباء فيما تمضي حياتهما على نفس الوتيرة،

غضب سمسار الكهرباء الذي جاء الي بيتها يسحب لمباته البائرة وقال لها:

كيف تقبلين الإهانة؟ عيال المدرسة يحضرون الى بيتك ويقومون بتركيب لمبة زان!

كان حديثه مقنعا، كان يمكن تصديق السماسرة في القرن الماضي، حتى ان نورا نزعت اللمبات وهي مضيئة وهشمتها على الارض، مثيرة عاصفة صغيرة من غبار النيون، فيما انهمك السمسار في تركيب لمباته، وحتى لا يجعلها الغضب تنسي ان تدفع له تكلفة اللمبات قال لها ملاطفا:

(أهلك كلهم سمحين، اشمعني انتي طلعتي شينة كدة؟)

أحالته بعنف الي المسئول الحقيقي، قالت والشرر الأحمر يتطاير من عينيها: أسأل أمي وأبوي!

كان مسنا ومهلهل الجسم، ورغم أن منظره يوحي بانه يمتلك الحكمة ويستطيع حل أية مشكلة في العالم، لكنه كان يتعارك مع الأسلاك ولمبات الكهرباء ويسب الدين عدة مرات، حتى ينجح في كل مرة في توصيل احدى اللمبات التي تشتغل بفضل الصدفة لا بفضل الكهرباء. وكاد وابور الكهرباء يحترق عدة مرات بسبب توصيلاته الخاطئة. حكى لنورا أنه هجر الزراعة وامتهن كل شيء آخر بسبب قلة عائدها. وأنه أصبح مسنا لا طموح له أبعد من موت هادئ في فراشه نهارا، فقد كان يؤمن بقداسة النوم الليلي وأنه ما من شيء في الدنيا يمكن أن يبرر إزعاجه وقطع استغراقه في النوم ليلا، لكنه كان يعمل لتوفير بعض المال ليشجع ولده الوحيد على الزواج، فقد كان يخشى أن يسافر ولده بعيدا ولا يراه مرة أخرى.

مضت حياتهما بنفس ايقاعها، فيما استمرت الاجتماعات لحسم معضلة هل يمكن العيش دون كهرباء، حتى الصباح المشئوم، شعر نور الدين بألم غريب في حنجرته، قال المساعد الطبي الذي ذهبا اليه مساء: هذا التهاب بسيط في الحلق وأعطاه حقنة بنسلين ونصحه بشرب اللبن.

في اليوم التالي كان الألم لا يزال مستمرا، وبعد شهر كامل تحدث فيه السر النجّار عدة أيام دون توقف، وضحك جارنا الذي كان يعاقر الخمر وضوء القمر ألف مرة، وامتد فيه خيط العنكبوت في غرفة الكهرباء بضعة سنتيمترات، استمر الالم في حنجرة نور الدين.

ذات مرة كان جارنا الذي يعاقر الخمر وضوء القمر نائما في لجة الضُحى في منتصف الطريق العام، حين أيقظه العم ابراهيم وقال له معاتبا

كيف تسكر وانت زرت بيت الله؟؟

فقال جارنا الذي يعاقر الخمر وضوء القمر:

زربوه.. ما بنمشي تاني!

قال الطبيب في المدينة: يجب أن يسافر الولد الي الخرطوم!

باعت نورا جزءا من بهائمها وارسلته مع بعض اولاد الجيران الي ساتي في الخرطوم،

بعد أسابيع عاد نور الدين دون أن يعرف شيئا ومع ألم الحنجرة كان يحمل رسالة من سطر واحد، قرأتها لنورا، وكان مكتوبا فيها

والدتي الحبيبة: لكم السلام والتحية، بخصوص الأخ نور الدين، الأعمار بيد الله!

ابنكم ساتي

صعقت نورا وصرخت ان ساتي اصيب بالجنون، ذهبت الي أحد الجيران القادمين من الخرطوم وعرفت ان ابنها مصاب بمرض خبيث لا شفاء منه.

وقف عبدالله فوق المجتمعين وقال يا اخوان ادفعوا لنا حق الجاز وبعدين ارجعوا اجتمعوا، الجاز على وشك ينفذ، وستوقف محرّك الكهرباء! ولو الكهرباء توقفت لن تجدوا شيئا تجتمعون من أجله! قاطعه السر النجّار: لحظة أنا عندي اقتراح سيحل المشكلة تماما!

لم تقتنع نورا بأطباء الخرطوم: اللعنة تغشاهم قالت، سماسرة لابسين ملابس ملائكة، كل همهم القرش، الرحمة عندهم بالمال، ذهبت الي شيخ عثمان:

ولدي يا شيخ عثمان، جنا بطني وغتاي، ستري وروحي!

بعد أن استشار واستخار حدّد شيخ عثمان المطلوب:

عسل نحل أصلي اسود، وزيت سمسم، ظلف ناقة صفراء، لبن حمار أسود، زيت زيتون، وحبة البركة.

وقف عبد الله صارخا: يا اخوانا اتركوا الكلام وادفعوا قروش الكهرباء عشان نقدر نعمل صيانة للوابور ونشتري الديزل والزيت، أو تعالوا استلموا الوابور. وكفي الله المؤمنين شر الكهرباء!

ويعود عبد الله للصراخ ليطفو صوته فوق صوت غناء جارنا الذي كان يعاقر الخمر وضوء القمر:

يا شيخ ابراهيم ولدك رسل ليك قروش عشان الكهرباء، أدفع لينا اشتراك ثلاثة أشهر عشان نشتري الديزل!

ويقول الحاج ابراهيم وهو يتحسس النقود في جيبه:

القروش ولدي أرسلها لي، ما أرسلها للكهرباء! لا حاجة لي بالكهرباء، أنا على وشك أن افقد بصري، لا فرق عندي بين النور والظلام!

والآم الحنجرة تزداد والصوت يختفي والرقبة تتضخم، رغم العلاج المكثّف.

حتى وقف عبدالله صارخا فيهم ذات صباح: يا جماعة انتو لسة مجتمعين؟ الحكومة انقلبت والعسكر استلموا السلطة، وانتم ما جايبين خبر!

قال السر النجّار: الرئيس الجديد اسمه منو؟

قال عبدالله: اسمه البشير!

نهض جارنا الذي يعاقر الخمر وضوء القمر صارخا وقال

لا حول ولا قوة الا بالله ..الأزهري قلبوه !؟

2001

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..