مقالات وآراء

الابتسامة الصفراء “قصة قصيرة”

عاطف عبدالله

قبل أن تندلع النار الكبرى، كان عباس لا شيء يُذكر.

مجرّد ظلٍّ يتجوّل بين الأزقة، يحمل نصف شهادة ونصف ابتسامة… والباقي ولاءٌ للسلطة، أيّ سلطة.

أمضى نصف عمره بلا عمل، يتنقّل بين مهن هامشية: تارة بائع في السوق، وتارة جزار، وأحياناً سائق ركشة. لكن الثابت الوحيد في حياته أنه كان مخبراً في جهاز الأمن، عاشقاً للسلطة والتسلط، يوزّع ابتسامته الصفراء كما يوزّع الوشاية والأوامر. يعرف المدينة كأنها امتداد لجسده، ويعرف ناسها كما يعرف أصابع يديه.

كان من أولئك الذين لا يحملون شهادةً ولا مبدأ، لكنه كان يعرف شيئاً واحداً: أن السلطة لا تحتاج إلى علم، بل إلى ولاء وعينٍ تراقب وفمٍ يشي.

منذ صغره، لُقّب بـ”عباس النتن”، وكان يردّ على الشتيمة بابتسامة واثقة، كأنها وسامٌ على صدره، أو اعتراف ضمني بأن النتانة جزء لا يتجزأ من السلطة.

بعد ثورة ديسمبر، اختفى عباس. لا ظلّ له، ولا صوت. كأن الأرض التي لفظته قد ابتلعته من جديد. لكنه لم يكن غائباً، بل كامناً. وحين اطمأنّ إلى أن حكومة الثوار لم تنصب المشانق لسدنة العهد البائد، وأن رجال الأمن الذين سفكوا دماء المعارضين في بيوت الأشباح يمشون بين الناس هانئين مطمئنين، خرج من جحره بوجهٍ جديد وعمامةٍ قديمة، يزعم أنه ثائرٌ بين الثوار. فقد كان بارعاً في الوقوف على حبلين… دون أن يسقط.

ثم اندلعت الحرب.

لم يغادر عباس المدينة كغيره من النازحين. وجدها فرصةً للثراء السريع؛ فهو يجيد تجارة الحرب. بقي في الجانب الذي اجتاحه الجنجويد، ووقع في الأسر، لكنه ما لبث أن أُطلِق سراحه؛ كان في صفوف الدعم السريع بعض من رفاقه القدامى في جهاز الأمن. جمعت بينهما المصالح… والذاكرة النتنة.

وبخفة بهلوان سياسي، صار يتنقّل بين ضفّتي الجحيم. يدخل مناطق الجنجويد كواحدٍ منهم، ويعبر إلى مناطق الجيش كمتعاونٍ مألوف. كان يقتحم البيوت الخالية، ينهب ما تيسّر من متاع وأجهزة، واستولى على عربة فنطاس ماء مهجورة، فصار يبيع الماء كما يبيع تصاريح المرور للراغبين في الخروج.

كان يتاجر في الظمأ… وفي الخوف.

صار عباس عرّاباً للفتنة. في مناطق الجنجويد، يوشي بالنشطاء بأنهم جواسيس للجيش. وفي مناطق الجيش، يشي بالثوار على أنهم خلايا نائمة للدعم السريع.

في حساباته، لا فرق بين دمٍ ودم… ما دام رأسه فوق الماء.

وجمع عباس ثروة من بيع وتوزيع مواد الإغاثة، يعمل بالوكالة لصالح ضباط كبار من الجانبين. ففي زمن الحرب، لم تكن الإغاثة طعاماً أو ماءً، بل سلاحاً ناعماً مشروطاً بالطاعة والولاء. وكان عباس يتقن فنّ بيع الخنوع… قبل أن يبيع الماء وتصاريح العبور.

وذات مساء، وبينما كان يعبر نقطة تفتيش غامضة، اشتبه فيه الجنود من كلا الطرفين. كانوا مرهقين، متحفزين، متعطشين لعدوٍّ يتنفّس. لم تنفع الوساطات، ولا تاريخه المزدوج، ولا تلك الابتسامة التي واصلت التسرّب من فمه رغم كل شيء.

سأله أحدهم: “مع من أنت؟”
صمت.
سأل آخر من الجهة المقابلة: “قُل الحقيقة… ولو مرة واحدة!”
لزم الصمت، متجمّداً من الخوف، لا يحرّك ساكناً. لأوّل مرة، لم يجد ولاءً جاهزاً، ولا كذبة مناسبة. فقط… ابتسم.

لكن ابتسامته كانت خاوية، كأنها تبحث عن خيانةٍ جديدة… ولم تجد.

انطلق الرصاص، وسقط جسده على التراب. انسكب الماء، واختلط بدمائه، فشكّل وحلاً بلون الخيانة.

لكن، كما هي عادته… نجا كالعفن، لا يختفي بل يتسرّب إلى أماكن جديدة.

يُقال إنه في القاهرة، يبيع أحلام اللجوء في شارع فيصل. أو ربما تماهى مع ظلّه في مدينة كوستي متخفياً في عباءة إحدى الطرق الصوفية. وزعم آخرون أنهم رأوه في بورتسودان يرتدي زيّاً عسكريّاً برتبة رفيعة، قائداً لإحدى المليشيات المسلحة.

لا أحد يعرف أين عباس اليوم. ربما مات، وربما ترقّى.

لكن الأكيد أن ابتسامته الصفراء لا تزال تتسكع في الصباحات… على هيئة خبير استراتيجي، أو خطيب ملهَم، أو سياسي يُجيد تبديل المعسكرات، يبحث عن وظيفة وزير في الحكومة القادمة.
انتهت

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..