مقالات وآراء

أنقرة جناح مظلم في حرب السودان

 

عثمان فضل الله

السودان، حيث ترتفع سحب الدخان من مدن كانت ذات يوم عامرة، تعج بالحياة، وضجيجها، دونما مقدمات أو بها أعملت الحرب آلتها، ففتكت بالسكان فتناثرت العائلات بين المنافي والملاجئ، الدمار لا يبدو حكرًا على الفاعلين المحليين وحدهم، فثمة أطراف بعيدة لا يُرى سلاحها في الصور، وفيما تُوجّه أصابع الاتهام غالبًا نحو الإمارات أو روسيا أو مصر كفاعلين إقليميين بارزين، تبقى تركيا في خلفية المشهد، لا لأنّها غائبة، بل لأنها اختارت العمل في الظل، مدفوعةً بأجندات معقّدة تتداخل فيها الجغرافيا بالتاريخ والدين، بالتحالفات البراغماتية، لا تدوَن صفقاتها في المحاضر الرسمية، لكنها تُدير خيوطًا دقيقة في الظلام.

على أطراف البحر الأحمر، لا تصدر أنقرة الوالغة في دماء أهل السودان بيانات عسكرية، كما أنها لا توزع الورود لكنها تخوض الحرب السودانية بصمتٍ مدروس، وبطائرات تُحلّق دون إعلان، في الوقت الذي تنشغل فيه الأنظمة الإقليمية بإعادة صياغة النفوذ في القرن الإفريقي، تُثبت تركيا أنها لا تقف على الهامش. تقول الأخبار إن خبراء عسكريون أتراك عادوا مؤخرًا إلى مدينة بورتسودان، بعد مغادرتهم المؤقتة في مايو 2025، إثر استهداف مواقعهم من قبل قوات الدعم السريع. للإشراف على تشغيل طائرات مسيّرة من طراز “تو تي بي بريقدار” و”أكينجي”، إذًا عودتهم لم تكن تقنية أو رمزية، بل إيذانًا بمرحلة جديدة من التورط العسكري في نزاع باتت فيه أنقرة طرفًا غير معلن، وشريكًا مباشرًا في المعركة، لا طرفًا داعمًا من على البعد وبالقطع لا إغاثيًا أو داعمًا إنسانيًا كما تدّعي.

طائرات عبر مالي

في منتصف يونيو، من العام الماضي تم تتبّع مسار شحنة من الطائرات المسيّرة التركية التي وصلت السودان عبر دولة مالي، بطريقة غير مباشرة، لتجنب الرقابة الدولية. الرحلات كانت مسجلة كحمولات طبية، لكن التحقيقات أثبتت – عبر سجلات الطيران وصور الأقمار الصناعية – أن الشحنة التي كانت وجهتها النهائية مطار بورتسودان وهبطت فيه كانت تحتوي على طائرات بيرقدار، مع فرق دعم فني وصلت لاحقًا عبر طائرات مدنية، وبعد أسبوعين فقط من تفريغ الحمولة، بدأت أولى العمليات الجوية الدقيقة، فيما بدا آنذاك  أنه تنشيط لغرفة عمليات تركية كاملة تحت سيطرة وإشراف كتيبة البراء بن مالك، التي يجب تصنيفها اليوم قبل الغد كمجموعة إرهابية.

غطاء بورتسودان

وتؤكد مصادر من داخل بورتسودان أن عودة الخبراء الأتراك تمّت بتغطية كاملة من سلطات المدينة، وتنسيق مع قيادة الحركة الإسلامية وعدد قليل من الضباط الذين يتلقون تعليماتهم من التنظيم لا البرهان. الخبراء – وهم من العاملين السابقين في شركة “بايكار” التركية للصناعات الدفاعية – لا يشرفون على التدريب فقط، بل يديرون وفقًا لعدد من التقارير ذات المصداقية العالية من داخل غرف تحكم إلكتروني، ويحددون الأهداف بالتعاون مع ضباط سودانيين تلقوا تدريبات في أكاديمية أنقرة العسكرية منذ ما بعد 2019، بحسب تقرير نشرته صحيفة “يني شفق” في مايو 2023. المهمة لم تعد لوجستية، بل تنفيذية على الأرض، وهو ما يجعل تركيا دولة ذات دور قتالي فعلي، وإن كان دون راية مرفوعة.

فبراير 2024، نشر موقع “نورديك مونيتور” الاستقصائي، المعروف بتسريبه لوثائق استخباراتية، تحقيقًا كشف عن تعاون أمني غير معلن بين جهاز المخابرات العامة السوداني ووكالة الاستخبارات التركية، تم تسهيله عبر شبكة سرية من الوسطاء، معظمهم ينشطون بين إسطنبول والخرطوم، ورغم أن الموقع لم يشر إلى انتماءات أولئك الوسطاء، ولكن معلوم لكل سوداني من هم أولئك الذين ينشطون بين الخرطوم وإسطنبول، وكيف تضخمت ثروات بعضهم عبر استثمارهم في الدم السوداني المسفوح.

دعم مزدوج

وبحسب الوثائق التي حصل عليها الموقع، فإن هذا التعاون شمل تبادلًا مباشرًا للمعلومات حول تحركات قوات الدعم السريع، إلى جانب استخدام تقنيات تركية متطورة في التتبع والمراقبة الميدانية. وتشير الوثائق إلى أن التنسيق الاستخباري بدأ منذ الأشهر الأولى للحرب التي اندلعت في أبريل 2023، وتطور لاحقًا ليشمل تقديم دعم لوجستي وتقني. وفي تحقيق موازٍ نُشر مطلع عام 2024 في صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية، جرى توثيق توريد عدة طائرات مسيّرة تركية من طراز “بيرقدار تي بي 2” ، في صفقة تمت بسرية تامة عبر وزارة الدفاع. ووفقًا للتقرير، فإن شركة “بايكار” التركية المصنّعة للطائرات المسيّرة، أرسلت أيضًا فرق دعم فني إلى داخل الأراضي السودانية لتشغيل الطائرات وتدريب ضباط الجيش على استخدامها.

وأضاف التقرير أن أنقرة لم تكتفِ بدعم الجيش السوداني فقط، بل كشفت وثائق منفصلة عن تواصل جرى بين شركة تركية أخرى – يعتقد أنها تعمل واجهة لوكالة المخابرات – وبين قيادات بارزة في قوات الدعم السريع، ما يشير إلى احتمال وجود ازدواج في التعامل التركي، بهدف الحفاظ على نفوذ أمني وسياسي مزدوج داخل السودان. ورغم هذه التسريبات، نفت السلطات التركية عبر قنواتها الرسمية تقديم أي دعم عسكري مباشر لأي من أطراف الصراع في السودان. لكن مراقبين يرون أن طبيعة العلاقات الاستخباراتية لا تخضع دائمًا للبيانات الرسمية، لا سيما في مناطق النفوذ المتنازع عليها مثل البحر الأحمر والقرن الإفريقي، حيث تتداخل مصالح أنقرة مع قوى إقليمية أخرى.

قوافل بلا شفافية

لم تقتصر علاقة أنقرة بالمؤسسة العسكرية على الطائرات المسيّرة، ففي أكتوبر 2023 نشر موقع ” افريكا انتليجنس” تقرير كشف عن دخول قوافل تركية إلى مناطق خاضعة لسيطرة الجيش في إقليم دارفور، وهي تحمل شعارات الوكالة التركية للتعاون والتنسيق (تيكا) وتُقدَّم على أنها مساعدات إنسانية، غير أن القوافل كانت محروسة بوحدات قتالية يُعتقد أنها تابعة لفِرق الدعم الفني التركية.

وبحسب إفادات أدلى بها موظفون في وزارة الصحة بدارفور لـ”أفق جديد”، فإن عددًا من تلك القوافل لم تخضع للتفتيش من قبل السلطات المحلية، كما أن محتوياتها لم تكن طبية بالكامل، وهو ما يعزّز الشبهات حول استخدامها لنقل معدات اتصالات وتقنيات مراقبة ميدانية لصالح الجيش.

سياق إقليمي مضطرب

يأتي هذا الانخراط التركي ضمن صراع إقليمي واسع للسيطرة على مفاتيح الجغرافيا السودانية، إذ تُتهم الإمارات بدعم قوات الدعم السريع، بينما يُنظر إلى تركيا باعتبارها الحليف الميداني للجيش، مستندة إلى إرث من العلاقات الوثيقة مع قيادات إسلامية سودانية باتت نافذة الآن.

مسارات قديمة

لم تبدأ علاقة أنقرة بالخرطوم مع الحرب الأخيرة، فمنذ عهد البشير، بنت تركيا نفوذًا واسعًا عبر بوابة “تيكا” ومؤسسة الهلال الأحمر، وتوغّلت في الشرق والوسط، مستخدمة العمل الإغاثي غطاءً للنفوذ السياسي. الاتفاق الذي وقّعه أردوغان في سواكن عام 2017، وإن جُمّد لاحقًا، لم يُمحَ من أجندة السياسة الخارجية التركية، خاصة بعد أن باتت الإمارات منافسًا  مباشرًا على ميناء بورتسودان، ففي يناير 2024 وصف تقرير لمركز “سيتا” التركي سواكن بأنها “ركيزة إستراتيجية للأمن البحري التركي في البحر الأحمر”، مما يفسر تمسّك أنقرة بتحالفاتها في شرق السودان مهما تغيّرت الحكومات أو تغيرت الأوضاع.

الإخوان خلف الستار

تركيا لا تلعب دورها في السودان بمعزل عن أذرعها القديمة، وعلى رأسها تيار الإسلام السياسي، بعد سقوط نظام البشير، تحوّلت إسطنبول إلى مقر إقامة لكوادر الحركة الإسلامية، كثير منهم أعادوا تنظيم أنفسهم عبر واجهات استثمارية وجمعيات خيرية، بل فتحت لهم أنقرة الفضاء لتبث قنواتهم الفضائية، ويديرون غرفهم الإعلامية الساعية الى إشاعة الفوضى وعدم الاستقرار في البلاد.

أفق جديد

تعليق واحد

  1. أبوظبي جناح مظلم في حرب السودان قل ابوظبي ليصبح المقال صادق
    الوالغ في دماء السودانيين هم محمد بن زائد واعوانه من بني جلدتنا في هذا الامر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..