تحولت إلى أرض قاحلة.. حرب السودان دمرت إحدى أقدم حدائق أفريقيا

تترنح الحديقة القومية النباتية بالخرطوم، إحدى أعرق حدائق أفريقيا والعالم العربي، تحت وطأة الحرب في السودان، لتتحول إلى أرض قاحلة خالية من الحياة.
ففي قلب حيّ المقرن العريق، حيث يلتقي النيلان الأزرق والأبيض، تحوّلت الحديقة التي تأسست عام 1954 من واحة علمية ومتحف بيئي مفتوح إلى أطلال قاحلة وركام يختصر وجع الخرطوم وذاكرتها البيئية.
أنشئت الحديقة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ضمن رؤية السودان الحديث لبناء بنية تحتية علمية وزراعية متطورة، وكانت من أوائل الحدائق البحثية في أفريقيا جنوب الصحراء.

دمار شبه تام
كشفت مشاهد مصوّرة بثّتها وسائل إعلام محلية ومواقع التواصل السودانية عن دمار واسع طال الحديقة. فالأشجار المعمّرة جُرّدت من أوراقها، البيوت الزجاجية تهشّمت بالكامل، والممرات التي كانت تتفيّأ بظلال النباتات تحوّلت إلى تراب يابس.
وقدرت التقارير البيئية نسبة التلف بما يفوق 90% من الغطاء النباتي، إما بفعل الإهمال أو التخريب الممنهج.
من جانبه، اختصر المهندس إسماعيل، أحد أفراد الطاقم الفني السابق للحديقة، مشاعره، واصفاً لـ”العربية.نت” اللحظة التي عاد فيها إلى المكان الذي أمضى فيه سنوات من البحث والتجريب، ليجده خاوياً إلا من الرماد والوجع، وقال “بكيت عندما رأيتها… الحديقة هذه علّمتني كل شيء”.

من مركز علمي إقليمي إلى كتلة رماد
ولطالما كانت الحديقة قبلة للباحثين وطلبة الزراعة والغابات، ومركز جذب بيئي للمؤسسات والسفارات، لكنها لم تصمد أمام لهيب الحرب. وتحوّلت بفعل النيران التي اندلعت بعد قصف جوي استهدف البنك الزراعي المجاور إلى كتلة من الفحم. امتدت ألسنة اللهب إلى عمق الحديقة، فالتهمت أشجاراً نادرة ونباتات مهددة بالانقراض.
ويقول المهندس إسماعيل إن “القصف استهدف البنك، والنيران انتشرت بسرعة إلى داخل الحديقة”، مضيفاً أن أنواعاً مثل شجرة اللهب الاستوائية، وشجرة الفيل، وكف مريم، والمهوقني، والجوغان قد تلاشت عملياً، في حين أن الأمل بات معقوداً على موسم الخريف لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

متحف نباتي يواجه الزوال
ولم تكن الحديقة مجرد مساحة خضراء؛ بل كانت مستودعاً نباتياً حيّاً يضم أنواعاً من كردفان، جنوب السودان، وأقاليم نائية يصعب الوصول إليها، بينها الهوهوبا (الجوجوبا) التي يُستخلص منها وقود للطائرات، والقطن الحريري، والقنا، إضافة إلى نباتات طبية وتوابل مثل الغرنغال والآس. جميع أنواع الطلح السوداني كانت موجودة ضمن خطة متكاملة لإعادة الإكثار والحفظ. اليوم، لا صوت يعلو فوق ركام الحريق والعطش.
الذاكرة البيئية تتبخّر
وكانت الحديقة أيضاً منصة علمية نادرة للمحاكاة البيئية وتقييم النمو النباتي في بيئات مشابهة لجبال النوبة، دارفور، الاستوائية، وأعالي النيل. كما أن سجلات التصنيف النباتي التي جُمعت على مدى عقود، معظمها ورقي ولم يُحول رقميا، ما يزيد من حجم الفقد المعرفي.
وقد أدرجت الحديقة في تقارير إقليمية كموقع بيئي محوري في الحزام النباتي الأفريقي، لتنوعها واحتضانها أنواعا لا توجد إلا في جيوب بيئية محددة بالسودان.

نداء عاجل لإنقاذ ما تبقى
ووسط مشهد الانهيار، وجّه المهتمون بالبيئة نداءات لإطلاق مبادرات إعادة إحياء الحديقة. واعتبر المهندس إسماعيل أن الأولوية تبدأ بحفر بئر تعمل بالطاقة الشمسية، لضمان الحدّ الأدنى من الحياة. ويضيف: “من دون ماء لا أمل، نحتاج إلى دعم سريع لاستيراد الأشجار الأصلية من جنوب السودان، من بينها التيك والأبنوس”.
ومن بين أبرز الأصوات المتابعة لقضية الحديقة، يقدّم الدكتور عبد العظيم ميرغني، الوثيق الصلة بالحديقة النباتية، بحكم موقعه الرسمي السابق، كمدير الغابات بالسودان، رؤية مهنية لإنقاذ الحديقة وإعادة بعثها.
ويقول لـ”العربية.نت”: “تُعد الحديقة النباتية مركزاً علمياً لحفظ التنوع النباتي، ودعماً للتعليم والبحث الزراعي، ومرجعاً مهماً للطلاب والباحثين، فضلاً عن كونها متنفساً بيئياً نادراً في قلب الخرطوم، وذات قيمة تراثية وعلمية متراكمة. إلا أنها شهدت خلال العقود الأخيرة تدهوراً شاملاً نتيجة الإهمال الإداري المزمن، وجاءت الحرب لتقضي على ما تبقى من بنيتها وموجوداتها”.

ويقترح ميرغني الإبقاء على الموقع الحالي كمتحف نباتي حي، بالتوازي مع إنشاء “حديقة وطنية للنباتات السودانية” على مساحة لا تقل عن 50 إلى 100 فدان خارج الخرطوم، لتكون مركزاً بيئياً للإكثار، البحث، والتعليم.
أما الإدارة المثلى، فيراها عبر هيئة مستقلة يقودها مجلس أمناء من العلماء والمهتمين ، بدعم من شراكات دولية ومصادر تمويل ذاتي مثل المشاتل والمعارض، بما يضمن استدامة الدور العلمي والبيئي للحديقة.
على كرتى موجود وجاهز يلقفها ويحولها اراضى سكنية !!!