المقالات والآراء

قراءة في الضربة الإيرانية ودهاء الرد المحسوب.

✍️ محمد هاشم محمد الحسن.

في زمن تكتب فيه الحروب بلغة التحذير المسبق وتُرسل فيه الصواريخ ومعها رسائل دبلوماسية، تصبح الضربة ليست فقط ما يُطلق، بل ما يُفهم، وما يُحذف، وما يُترك عمدًا بلا إصابة. الردّ الإيراني على الضربة الأميركية لم يكن فعلًا عسكريًا فحسب، بل مشهدًا مركّبًا من الإشارات، والحسابات، ورسائل توازن الردع بين حافة الحرب وسقف الدبلوماسية.

في لحظة تتشابك فيها معاني الردع والمخاطرة، ويعلو فيها صخب السرديات على أصوات الوقائع، جاءت الضربة الإيرانية على قاعدة العديد في قطر وقاعدة عين الأسد في العراق لتُثير أسئلة أكثر مما تجيب. ليس لأنها غير متوقعة، بل لأنها مرّت عبر ممرّ دبلوماسي معلن، سبقها إخطار واضح نقلته طهران إلى واشنطن عبر قنوات وسطاء، في سابقة لا تَكثُر في تاريخ الاشتباك بين الخصمين. الضربات التي يُفترض أنها تجسيدٌ للمفاجأة والمباغتة، تحولت هنا إلى إشعار مُسبق بقيام فعل ناري، ما جعل الصواريخ أشبه برسائل سياسية محمولة على أجنحة الدقة الزمنية لا على رغبة التدمير.

الإخطار الإيراني قبل تنفيذ الرد لم يكن فقط إجراءً لتفادي التصعيد، بل تجلٍ لحسابات مركّبة، مدروسة، تحاول طهران من خلالها أن توفّق بين ضرورات الداخل وضوابط الخارج. فالنظام الإيراني، الذي تلقّى ضربة موجعة على منشآته النووية، لا يستطيع الصمت دون أن يدفع كُلفة سياسية داخلية، لكنه لا يملك أيضًا ترف الانجرار إلى مواجهة مفتوحة قد تفضي إلى تآكل شرعيته واستنزاف قوته في لحظة حسّاسة. جاء الرد ليملأ هذا الفراغ بضربات محسوبة، رمزية، تُعيد الهيبة دون أن تُغلق باب العودة إلى الطاولة.

ردود الفعل الغربية كشفت عن دهشة مصطنعة، أو على الأقل عن مفارقة لم يكن أحد يتوقع أن تُقال علنًا. الرئيس الأميركي، الذي يفترض أنه تلقى ضربًا لقواعده، خرج ليشكر إيران على إخطارها المسبق. عبارة اختزلت ما هو أبعد من المجاملة أو ضبط النفس، لقد كشفت أن واشنطن لم تكن بوارد التصعيد، بل كانت تنتظر من طهران أن تردّ وفق الشروط الأميركية غير المعلنة، بلا قتلى، لا تصعيد، ولا إحراج للبيت الأبيض. وهكذا حدث. تحركت الصواريخ الإيرانية لتسجل حضورًا، لكنّها لم تُسقط أوراق التفاوض من يد واشنطن، بل جعلت الأخيرة تبدو كما لو أنها من رسم حدود الردّ وحدوده الزمنية والجغرافية.

في هذا السياق، يصبح تصريح ترامب بأن (الوقت قد حان للسلام) ليس تعبيرًا شاعريًا عابرًا، بل محاولة مدروسة لإعادة ضبط الإيقاع السياسي بعد ضربة غير قاتلة. الرئيس الذي يحرص دائمًا على الظهور بمظهر القوي، قرأ الرد الإيراني على أنه فرصة لاختبار حدود القوة من دون الدخول في حرب، بل إنه استثمر في هذا الردّ باعتباره دليلًا على أن سياسة الضغوط القصوى أتت أُكلها. إيران تردّ، نعم، لكنها تردّ ضمن مساحة محسوبة تسمح بتهدئة يمكن وصفها في الإعلام كخطوة نحو السلام، لا كمرحلة من مراحل الحرب.

غير أن فهم هذا الردّ لا يكتمل دون التوقف عند الحسابات الاستراتيجية الكبرى التي تضبط سلوك الخصمين. الولايات المتحدة، في ضوء تورط موسكو في أوكرانيا وتزايد النفوذ الصيني، تُدرك تمامًا أن الانجرار إلى حرب مفتوحة مع إيران سيكون أشبه بمنح هدية جيوسياسية لمنافسيها في بكين وموسكو. ففي اللحظة التي تستنزف فيها طاقتها في الخليج، يتوسع الروس في شرق أوروبا، وتُسرّع الصين التمدد في المحيطين الهندي والهادئ. لذا فإن ممانعة واشنطن للتصعيد ليست ضعفًا، بل إدراك ذكي لكلفة التورط واستراتيجية تحصين المجال الحيوي.

بالمقابل، تدرك إيران أن تجاوز الخطوط الأميركية الحمراء ليس تجرؤًا تكتيكيًا، بل انتحار استراتيجي. أي تصعيد ميداني مباشر على القوات الأميركية قد يضع النظام بأكمله على حافة الزوال. ورغم الضربات الموجعة التي تلقّتها مؤخرًا من واشنطن وتل أبيب، فقد استطاعت طهران أن تخلق مناخًا داخليًا يلتف حولها، وأن تستثمر لحظة الاستهداف لصناعة سردية صمود لا تزال قادرة على تعبئة جمهورها المحلي، ما يجعل خيار التصعيد الكلي مستبعدًا وإن ظل التلويح به قائمًا.

وفيما بدت إسرائيل الجهة الأكثر تحفيزًا للضربات على طهران، اختارت الأخيرة أن تُوجّه ردها إلى الولايات المتحدة، لا إلى تل أبيب، في مفارقة تعكس وعيًا أولوياتيًا داخل المؤسسة الإيرانية يظهر الامتناع عن توسيع جبهة الاشتباك وكأنه حرصٌ على عدم إرباك موسكو وبكين، أو إغراء الخليج بإعادة التموضع ضمن اصطفافات أكثر حدة.

ومما يستحق التوقف أيضًا أن الدول الخليجية، التي تقع على تماس مباشر مع جغرافيا الرد، لم تعلن بشكل صريح عن موقفها من الضربة، ما يعكس توازنًا دقيقًا وحذرًا شديدًا. فالسعودية التي تدير تفاهمًا غير مباشر مع إيران، وقطر التي استُهدفت أراضيها عسكريًا دون وقوع إصابات، تعاملتا مع الحدث كـ(عرض محدود) يُفضّل ألا يتطور. هذا التريث الخليجي يعكس أن الدول العربية باتت تدرك أنها في مرمى الحسابات دون أن تكون جزءًا فعليًا من قرار الاشتباك أو التهدئة.

ولأن السياسات الذكية تُكتب تحت ضغط النيران وتُقيَّم بعد انطفائها، فإن وقف إطلاق النار الكامل الذي أُعلن لاحقًا بين إيران وإسرائيل، بدا وكأنه ثمرة من ثمار هذا الضبط المتبادل للإيقاع، ودليل آخر على أن منطق الرسائل أنجح من منطق المغامرة، حين تُصاغ الصواريخ ببلاغة السياسة لا فوضى الغضب.

ما حدث لم يكن مجرد ضربة ورد، بل لحظة تجلّت فيها براعة إدارة الهوامش، وتحوّل الصاروخ إلى أداة بلاغية ضمن خطابات الردع لا مجرد سلاح. طرفٌ يُحسن التوقيت، وآخر يُحسن الامتصاص، وثالث يراقب المشهد بحثًا عن ثغرة جيوسياسية. إنها رقعة شطرنج من نار، لا يتحرك فيها البيادق بلا حساب، ولا تُوجَّه فيها الملكات دون نظرة إلى الطاولة كاملة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..