مقالات وآراء

ود اللمين صوت وطن وحكاية وجدان ‏وين حنهرب منو وين ..؟!

هلال وظلال

عبدالمنعم هلال


‏ـ عندما كان ود اللمين يعتلي خشبة مسرح نادي الضباط جوار مطار الخرطوم كانت الطائرات الواصلة والمغادرة تتمايل طرباً وكأنها تؤدي رقصة الوداع والاستقبال على أنغام (قلنا ما ممكن تسافر) وكان شارع المطار بأكمله يرقص معه ويردد (جيناكم يا حبيبنا بعد غربة وشوق)…
‏كانت سماء الخرطوم تمطر صبياً نافعاً وتخفق قلوب العذارى في الأحياء المجاورة كأنها تسمع نداء العشق الأول ويتمايل الجميع شيباً وشباباً مع (نشيل أملنا نقابل أهلنا يقولوا أهلاً خلاص قبلنا) وكأنهم سكارى وما هم بسكارى وإنما سُكر الطرب وصفاء الوجدان بينما تكون تلك الحسناء مشغولة ب(الجريدة) يكون ذلك الشاب غارقاً في (بتتعلم من الأيام مصيرك بكرة تتعلم)…
‏وعند أول نقرشة من عود ود اللمين يفارق الهمّ الجميع ولا يعود (وداعاً يا ظلم الهمّ على أبوابنا ما تعتب).
‏محمد الأمين لم يكن مجرد فنان … كان حالة وجدانية وصوتاً نبت من تراب السودان وسرى في وجدان الناس كما تسري الحياة في العروق. ولد في مدينة ود مدني في قلب الجزيرة وهناك تشرب الفن من بيئة غنية بالإبداع فكان منذ بداياته صاحب صوت رخيم ونفس موسيقي مميز جعله فريداً بين أقرانه.
‏عرف محمد الأمين بصرامته الفنية ودقته المتناهية وحرصه على أن تصل رسالته الغنائية في أكمل وجه. لم يكن فنان مناسبات بل كان فنان مواقف يغني للقيم وللوطن وللحب النبيل والإنسان في كل حالاته.
‏تغنى لكبار الشعراء ورفد الساحة بأغنيات لا تمحى من الذاكرة مثل (زاد الشجون – شال النوار – الحب والظروف– الجريدة ـ الاكتوبريات) وغيرها كثير.
‏ود اللمين لم يكن فقط مطرباً بل موسيقياً شاملاً يجيد التأليف والتوزيع ويملك حساً مرهفاً جعله مدرسة قائمة بذاتها. ظل طوال مسيرته الفنية وفياً للمستوى العالي، لم يساوم على القيمة ولم يركض خلف الأضواء بل كانت الأضواء تلاحقه أينما حل.
‏هو من القلائل الذين إذا غنوا صمت الناس (يا تغنوا إنتو يا أغني أنا) وإذا عزف أنصت الزمن…
‏رحل محمد الأمين تاركاً خلفه إرثاً لا يشيخ وجداناً ممتداً في قلوب السودانيين وسيرة نقية كالوتر لا تنسى.
‏لك الرحمة والمغفرة يا ود اللمين … فقد كنت للأذن موسيقى وللقلب وطن.
‏وأغنية (زاد الشجون) التي كتبها الراحل الشاعر المبدع فضل الله محمد وتغنى بها الراحل الموسيقار العظيم محمد الأمين تعتبر واحدة من أعمق وأصدق الأعمال الفنية في وجدان الأغنية السودانية. فهي ليست مجرد كلمات عن الحب بل سفر وجداني كامل عن الاشتياق والحنين والخذلان والعجز أمام سطوة العاطفة.

‏(زاد الشجون)
‏ـ تعني أن الشوق والحزن تضاعفا وتكاثفا وأصبحت الشجون نفسها زاداً للحياة كأن الحزن أصبح طعام العاشق وسقياه.

‏ (ما هو باين في العيون، وين حنهرب منو وين)
‏ـ بداية مباشرة ومؤثرة يخاطب فيها الحبيب أو الذات بأن الحب لا يمكن إخفاؤه فهو ظاهر في العيون ومهما حاول الإنسان الهروب منه لن يجد مفراً.
‏تكرار سؤال (وين حنهرب منو وين.؟!) يؤكد الاستسلام الكامل أمام جبروت الحب.

‏(الهوى البعث الليالي العامرة بي زاد الشجون يفتح قلوبنا ديار محبة ديار حياة للعائدين)
‏ـ الحب أحيا الليالي وأعطاها معنى بل فتح أبواب المحبة كما تفتح المدن للعائدين بعد غياب.
‏(ديار حياة للعائدين) عبارة شديدة الدفء توحي بأن الحبيب حين يعود يعود له القلب كما تعود الحياة للمكان بعد موات.

‏(ما بنقاوم وكيف حنقدر وين حنهرب منو وين)
‏ـ هذا هو التكرار الموجع الذي يتخلل الأغنية وكأن العاشق يعيد السؤال لنفسه لأنه لم يجد إجابة.
‏يعكس ضعف الإنسان أمام مشاعره الصادقة مهما حاول.

‏(ما افتكرت الحظ يساعد عمري يورق من جديد)
‏لحظة دهشة وأمل مستحيل كأنه لم يظن أن قلبه سيخضر من جديد بعد الذبول.
‏(يورق) تعني أن الحياة دبت فيه مرة أخرى بعد يأس وفرقة.

‏(من بعد فرقتنا ديك مين كان بيفتكرك تعود)
‏ـ تساؤل ودهشة من عودة الحبيب رغم بعد المسافات والظروف.

‏(كنت بحتاج ليك بشدة وإنت عني بعيد)
‏ـ اعتراف صادق وصريح لحظة من لحظات الضعف العاطفي النبيل.
‏الشاعر هنا يعلي من قيمة الحبيب كضرورة.

‏(مافي عيشة بلاك بتبقى ومافي نشوة ومافي ريد)
‏ـ الحب ليس شيئاً إضافياً بل هو الأساس الذي تبنى عليه الحياة.
‏بدون الحبيب لا طعم ولا لذة ولا حياة ولا ريد.

‏(ده الهوى الجنبك عرفتو عاطفة ملتهبة وجنون)
‏ـ تأكيد أن هذا الحب لم يكن عادياً بل عاطفة خارجة عن السيطرة فيها حلاوة الجنون ومرارة الاشتياق.

‏(ادعينا وقلنا تاني ما حنشتاق في عمرنا وقبل ما تمر ليلة واحدة بحرارة الشوق غمرنا)
‏ـ تصوير جميل للتناقض الإنساني نكذب على أنفسنا بأننا تجاوزنا الحب ثم ننكسر بعد ساعات.
‏حرارة الشوق هنا تقدم كقوة طبيعية مثل الفيضان لا يُقاوم.

‏(الحياة صعبت علينا وبأثر فقدك شعرنا)
‏ـ الحياة لم تعد كما كانت والغياب ترك أثراً لا يُمحى.
‏هذا السطر يحمل خليطاً من الألم والصدق ويضع الحبيب الغائب في مقام المسؤول عن الحزن دون اتهام مباشر.

‏(شفت كيف حبك حياتنا إنت يا الحبك حياتنا)
‏ـ تأكيد على مركزية الحبيب في تفاصيل الحياة.
‏تكرار الجملة بتغييرات بسيطة يضفي عليها طابعاً غنائياً مؤثراً.

‏(وبرضو بتقول عني خادعك إني بتلاعب وبكذب)
‏ـ هنا تبدأ لحظة العتاب المر وكأن العاشق يتألم من اتهامات الحبيب له.
‏رغم الصدق والوله يُتهم بالخداع فينعكس ذلك وجعاً مضاعفاً.

‏(كنت تتعلم تجامل لو فؤادك مرة جرب إنو ما يدق دقة واحدة إلا ويتفجر حنين)
‏ـ هذه من أعمق سطور الأغنية والشاعر يقول إن من لا يذوق الحب الحقيقي لن يعرف ألم الحنين.
‏فالقلب الذي لا يختبر هذا الشعور لن يفهم معنى الشوق ولا قسوته.

‏تكرار السؤال (وين حنهرب منو وين)
‏تعود الأغنية للدائرة الأولى .. الحب لا مفر منه.
‏في التكرار هنا استسلام وانكسار وصدق مطلق.
‏أغنية (زاد الشجون) ليست فقط قصة حب بل رواية وجدانية كاملة عن الاشتياق والانكسار وقوة الذكرى ووجع الاتهام وصدق العاطفة السودانية الصميمة.
‏كلمات فضل الله محمد جمعت الشعر بالموسيقى وعزف محمد الأمين جعلها تنساب من القلب إلى القلب دون استئذان.
‏وفي زمن الحرب حين تشظى الوطن وتفرق أبناؤه بين المنافي والملاجئ نفتقد صوت ود اللمين كما نفتقد الوطن نفسه … نفتقده وهو يغني (أقابلك بكرة في الموعد) فنشعر أن اللقاء بات حلماً مؤجلاً ونسمعه في (الحب والظروف) فنقول في سرنا يا ريت كل الزول يقدر ظروف البلد دي.
‏ود اللمين كان يشبه السودان كما نحب أن نراه … نقياً كريماً .. مهيباً .. صادقاً لا يعرف التصنع ولا الزيف. رحل ونحن أحوج ما نكون إليه … رحل والبلد تنزف والأرواح تشتاق لصوت يداوي ويواسي ويجمع.
‏لك الرحمة يا فناننا الكبير فقد كنت جزءاً من وعينا الجمعي وجزءاً من ذاكرة وطن يحاول أن ينهض من تحت الركام على أنغام عودك وصدق صوتك ونبل رسالتك.

 

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..