حمدوك تاجر الحكمة

نبيل منصور
تفاجأتُ، كما تفاجأ كثيرون، بتصريحات عبد الله حمدوك في ندوة جنوب أفريقيا بشأن علاقته بدولة الإمارات. ففي لحظةٍ كان السودانيون ينتظرون فيها وضوحا أخلاقيا وسياسيا من أحد رموز المرحلة الانتقالية، جاء خطابه ليُربك الصف المدني، ويُضعف الرهان على تحالف “صمود”، وليمنح خصوم الثورة طلقات جديدة.
فرغم قناعتنا بصدق بعض مكونات “صمود” في سعيها نحو التغيير، ورهاننا عليه ليكون نواة لجبهة مدنية عريضة، فإن تصريحات حمدوك الأخيرة نسفت مجهوداً تراكمياً امتد لفترة طويلة من الزمن، كان هدفه بناء موقف مدني موحّد ضد الحرب ومن يقفون خلفها ويمولونها.
رمادية مريبة لا تُفهم إلا في سياقها:
في وقتٍ يبحث فيه الناس عن مواقف شجاعة تُسمّي الأمور بأسمائها، قدّم حمدوك خطابا بارداً، مراوغاً، أقرب إلى التبرير منه إلى الإدانة. هذه الرمادية لا يمكن فصلها عن سياق إقامته الرسمية بدولة الإمارات، الدولة الأكثر تورطًا في تسليح مليشيا الدعم السريع واستمرار الحرب.
لقد فقد الرجل ما يؤهله للحديث باسم الاستقلالية السياسية، فإقامته تلك تُكبّله أخلاقياً، وتجعله يتفادى تسمية الجهة التي يعرف – كما نعرف – أنها الداعم الأساسي لأحد طرفي الصراع. اختار الصمت، بل والدفاع أحياناً عن الإمارات، وبهذا وضع نفسه في موقع أقرب إلى التواطؤ منه إلى الشجاعة الوطنية.
تصريحات تخدم خصوم الثورة.. عن وعي أو دون وعي:
الأخطر في خطابه لم يكن فقط محاولته تبرئة الإمارات، بل تقديمها كـ”شريك كريم” لأنها تستضيف السودانيين وتقدّم لهم الدعم. ولمزيد من التمويه، حاول خلق توازن زائف حين أشار إلى أن “إسلاميين كُثر” يعيشون في الإمارات، وأن “الذهب لا يزال يُصدَّر إليها” – في إشارة ضمنية إلى حكومة بورتسودان – وكأنّ ذلك يضع الطرفين على قدم المساواة، أو يُعفي أبوظبي من مسؤولية تسليح مليشيا الدعم السريع.
هذه السردية تُعيد إنتاج خطاب الكيزان أنفسهم، الذين يدّعون البراءة رغم دلائل التورط، بل وتُربك سردية الثورة التي قامت على تسمية القتلة ومحاسبتهم، لا تبريرهم أو تغطيتهم بدعوى “الواقعية”.
هل هي سذاجة؟ أم رسالة مُمنهجة؟:
من الصعب تصديق أن حمدوك يجهل تأثير كلماته أو أنه يُدلي بهذه التصريحات بسذاجة. فالتوقيت ليس بريئاً لان الخطاب جاء بعد شهور من اتهامات وجهتها حكومة بورتسودان لتحالف “صمود” بالتبعية للإمارات. فهل أراد تبرئة نفسه؟ أم أنه أرسل رسالة طمأنة لأبوظبي كي لا تُحرجه، أو تقطع عنه الدعم؟ أم أن هناك دوراً يُعاد تجهيزه له في إطار تسوية تُشرعن الفاعلين المسلحين تحت لافتة مدنية مزيفة؟
أياً كانت الدوافع، فإن النتيجة واحدة: تصريحات حمدوك تخدم المشروع الإسلاموي من حيث لا يدري. ليس فقط لأنها تُضعف التحالف المدني، بل لأنها تضرب جوهر الخط الأخلاقي للثورة، وتفتح الباب أمام خطاب قديم يُلبّس نفسه ثياب “الواقعية” ليعود إلى المشهد.
تصريحات حمدوك الأخيرة، وكأنها محاولة لقول: أنا هو صمود وصمود أنا. هذا التماهي الخطر يُقزّم تحالفاً مدنياً واسعاً إلى ظل رجل واحد، ويهدد بتحويل صمود من أمل جماعي إلى منصة فردية. وإن لم تُعلن مكوناته موقفاً يضع حداً لهذا التداخل، فإنهم يكتبون بيدهم شهادة خصخصة المشروع المدني لصالح حسابات شخصية
من سيدفع الثمن؟:
الضرر لا يقف عند شخص حمدوك، بل يمتد إلى مجمل تحالف “صمود”. فحين يتصدّر التحالف رجل يُراوغ في أبسط القضايا الأخلاقية، فإن الثقة في المشروع بأكمله تصبح على المحك. وإذا لم تُراجع “صمود” خطابها وموقعها، فإنها قد تتحوّل إلى مجرد أداة في يد قوى إقليمية تسعى لإعادة تدوير الأزمة لا حلّها.
الخاتمة: عندما يصبح الصمت أخطر من الرصاص
حمدوك في خطابه بدا كمن يطمئن نفسه قبل الآخرين. تناقضه بين مدح الإمارات وتجنّب الحديث عن دعمها للدعم السريع يُظهر ارتباكاً داخلياً بين الرغبة في الحفاظ على شعبيته وبين التزامات لا يُفصح عنها.
لكن الأخطر من كل ذلك، أن يتحوّل هذا الخطاب إلى بوابة يُعاد عبرها إنتاج التسويات الكاذبة، وتمرير “الحلول الإقليمية” التي تكرّس القتل تحت شعار السلام. فإن لم يُحاسب حمدوك اليوم على صمته وتبريراته، فقد يُستخدم غداً لتغطية أكبر خيانة للثورة.
في لحظة تاريخية كهذه، الصمت ليس حياداً، الصمت شراكة. وإن لم تستيقظ “صمود” وتعلن موقفاً حاسماً، فإن ما قيل في جنوب أفريقيا سيكون المسمار الأول في نعش المشروع المدني بأكمله.
أين الخطأ في ما قاله حمدوك؟ كل ما قاله حقائق:
1.دولة الإمارات مولت الجيش والدعم السريع في إرتزاق حرب اليمن..بمعنى التمويل ليس جديداً.
2.آلاف السودانيين موجودون في دولة الإمارات..وهم يعاملون أحسن معاملة؛ إذا تمت المقارنة بمعاملتهم في دول عربية أخرى.
3.قطعت الحكومة علاقاتها الدبلوماسية مع دولة الإمارات ولكن لا زالت تجارة الذهب مستمرة.
4.أعداد كبيرة من فلول الإنقاذ موجودة بدولة الإمارات من قبل الحرب وبعدها.
5.دكتور حمدوك موجود في دولة الإمارات من قبل الحرب.