مقالات وآراء سياسية

من الخرطوم إلى السودان : نحو تأسيس وطن لا مركزي تعددي وعادل

د. أحمد التيجاني سيد أحمد

 

1. السودان ليس الخرطوم فقط

حين عدت من جوبا بعد توقيع اتفاقية السلام، كنت أحد رؤساء التنظيمات المشاركة. أتذكّر جيدًا وقوفي أمام ميكروفونات وكالة السودان للأنباء (سونا)، حيث استهللت كلمتي بعبارةٍ تختصر جوهر أزمتنا منذ الاستقلال:

“السودان ليس الخرطوم”.

 

لم تكن تلك جملة إنشائية، بل دعوة صريحة لكسر اختزال الوطن في مركزٍ ضيّق يحكم ولا يستمع، يقرّر ولا يشاور، يبتلع ولا يُعطي.

لكن ما كشفته التجربة بعد ذلك – وخاصة بعد جوبا – هو أن المشكلة ليست في الخرطوم وحدها، بل في عقل النخبة، في أسلوبها، وفي مدى جرأتها على التحوّل من الوعي إلى الفعل.

 

٢. نخبة تتخيّل ولا تنفّذ

لقد ظلّ معظم المثقفين والسياسيين في السودان يُدركون نظريًا أن البلاد متعدّدة، متنوّعة، متباينة في هوياتها وسردياتها، لكن قلّة منهم فقط تحمّلت مسؤولية ترجمة هذا الفهم إلى مشروع واقعي.

فرص تاريخية أُتيحت، كان أبرزها اتفاقية جوبا، لكنها ضاعت في زحمة التردّد، والانتهازية، وتضارب الطموحات.

 

وبينما انتظر الشعب مشروعًا للتحوّل الديمقراطي العادل، عادت قيادات – من محاربين إلى مدنيين – تحت عباءات التضليل والصفقات، لا بروح بناء الوطن، بل كمن يبحث عن نصيب في غنيمة منهكة.

 

لقد تحوّل عدد كبير من رموز المعارضة السابقة إلى شركاء في ذات المنظومة التي قاتلوها، يكرّرون خطاب السلطة بوجوه جديدة.

فانكشفت الهوة بين التنظير والممارسة، بين أحلام التغيير، وواقع إعادة تدوير المأساة.

 

٣. مشروع عروبي–إسلاموي استعلائي

لكن الأعمق من هذا كله، أن مشروع الدولة السودانية منذ الاستقلال قائم على إنكار الجذور، واستعلاء الهويات، وقمع التنوّع.

فُرض على البلاد مشروع عروبي–إسلاموي أحادي، حارب كل ما هو أفريقي، نوبي، حامي، نيلي، وكل ما لا ينضوي تحت سلطة الهُوية الرسمية الزائفة.

 

هذه السلطة، بتكوينها العقائدي الشمولي، استبدلت المواطنة بالإقصاء، والانتماء بالتكفير، والوطن بالتعريب القسري.

حاولت توحيد السودان قسرًا، فمزّقته.

وأرادت بناء دولة الرسالة، فأنجبت دولة التمكين والفساد.

 

٤. من المرتزقة إلى المحاربين من أجل الوطن

لكن وسط هذا السقوط، وُلد وعيٌ جديد من قلب الهامش.

 

جنودٌ طالما استُخدموا كمرتزقة لحماية السلطة المركزية المستعلية، بدأوا في مساءلة دورهم، والتمرّد على الخطاب الزائف الذي جعلهم وقودًا لحروب لا تخصهم.

 

 

سؤالهم تغيّر:

لماذا نحارب من أجل نظام لا يعترف بنا؟

لماذا نُستعمل كأدوات، بينما نُحرم من الكرامة والمكان؟

 

من هنا بدأت ولادة فلسفة “التأسيس”.

من هذا التمزّق التاريخي تولد قناعة عميقة بأن لا خلاص للهامش دون خلاص السودان كله،

وأن لا وحدة وطنية ممكنة دون لا مركزية عادلة، وفيدرالية ديمقراطية، وعلمانية تحمي التنوع، لا تكرّس الهيمنة.

 

 

تحوّل الجنود إلى مواطنين،

والمتمرّدون إلى مؤسسين،

والهامش إلى مركز جديد للفكرة.

 

٥. نهاية السلطوية … وبداية الوطن العادل

التأسيس ليس مجرّد مشروع سياسي، بل إعادة تعريف للوطن.

هو لحظة قطيعة مع نظام عفن، ومع فكر يزدري الناس تحت شعارات عابرة للقارات لا تنتمي إلى تربة هذا البلد.

 

*نحن لا نسعى إلى دولة توحّد الناس بالقوة، بل إلى وطنٍ يحمي اختلافهم بالعدالة.

*لا نريد سودانًا يذيب الخصائص العرقية والثقافية في مركز واحد، بل سودانًا يعترف بها، ويمنحها حق الوجود، والتعبير، والإدارة الذاتية.

 

التأسيس هو إعلان نهاية السلطوية المركزية، وبداية بناء وطن يعترف بجميع أبنائه دون وصاية، ولا استعلاء.

 

-سودان تعددي، لا عنصري.

-علماني، لا ديني شمولي.

-أفريقي، لا تابع.

-حرّ، لا خاضع.

-ديمقراطي، لا مرتهن للعساكر والفقهاء.

 

لقد بدأت نهاية الماضي حين بدأنا نحلم معًا.

وستبدأ بداية المستقبل حين ننفّذ ما نحلم به، لا نيابة عن أحد، بل باسمنا جميعًا.

[email protected]

تعليق واحد

  1. تصحيح
    حين عدت من جوبا بعد توقيع اتفاقية السلام، كنت أحد رؤساء التنظيمات المشاركة. أتذكّر جيدًا وقوفي أمام ميكروفونات وكالة السودان للأنباء (سونا)، حيث استهللت كلمتي بعبارةٍ تختصر جوهر أزمتنا منذ الاستقلال:

    “السودان ليس الخرطوم
    هذه العبارة المعبرة كتبها الريس محمد داود بنداكً رييس حركة تحرير كوش و هي تعبر عن راي غالب اهل السودان
    اسف للخطاظ عند نقل العبارةً. ارجو من التحرير اضافة التصحيح

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..