مقالات سياسية

بين إسبانيا والسودان وما أشبه البارحة باليوم

د. صالح مصطفى كامل

مرت إسبانيا بحرب أهلية طاحنة ضروس بين ١٩٣٦ و ١٩٣٩ اهتزت لها أعمدة التاريخ المعاصر من ما ارتكب فيها من انتهاكات و استخدام لتقنيات حربية لم تعرفها البشرية من قبل و بالأحرى استخدام الطيران لرمي القنابل من عل لتحطيم البشر و الجماد

و حرب السودان اليوم ايضاً حرب طاحنة ضروس دخلت عامها الثالث ترتكب فيها جرائم ضد الإنسانية و إبادة جماعية و اغتصاب و اجرام و استباحة الممتلكات الخاصة و العامة تستخدم فيها نوع جديد من الأسلحة ساحاتها المدن و أسلحتها الفتاكة المسيرات التي تسيير من بعد مئات بل آلاف الكيلومترات لم تستخدم في حرب أو في عاصمة في افريقيا من قبل.

 

و في إسبانيا عند وفات الجنيرال فرانكو عام ١٩٧٩ مرر قانون يعرف بعهد النسيان للمضي قدما في طي صفحة الماضي و جراحها التي لم تلتئم حينها و النظر إلى مستقبل اكثر اشراقا و انسجام

في ١٩٧٩ انتقلت إسبانيا من نظام فاشي شمولي فرضه منتصري الحرب الاهلية لنظام ديمقراطي متعدد الأحزاب تتداول فيه السلطة تحت نظام ملكي أعيد بعد حين

و ما زالت مرارات الحرب الأهلية الاسبانية تتجلى من حين إلى حين كحال إمرأة تكتشف أن والديها تبنوها حسب مشروع هندسة إجتماعية لتعديل نسل و تربية الذين ولدوا في عوائل تنتمي للطبقات الاجتماعية الدنيا، و اكتشاف مقبرة جماعية جديدة مكتظة بأناس مجهولي الهوية

رسمت خطوط الحرب الاهلية الإسبانية بين اليمين: الطبقة الأرستقراطية الإقطاعية المحافظة التي كانت تمتلك الأراضي الزراعية المنتجة و التي كان من بينها رواد الصناعة في شمال إسبانيا و تحديدا برشلونة و جنرالات الجيش و أنصار الملكية و الكنيسة الكاثوليكية التي كانت العصب الذي جمع الأغنياء والفقراء على حد سواء تحت ثوب الطاعة و الهوية و التي كانت تسيطر على التعليم و توفره لفئة صغيرة جدا من المجتمع في جانب؛ و في الجانب الآخر قوى اليسار التقدمية من شيوعيين ستالينيين و غير ستالينيين و نقابات العمال لا سيما عمال التعدين في أقصى شمال إسبانيا في استورياس و السنديكاليون الراديكاليون الذين كانوا يسعون لمجتمع أفقي.

 

و بدأت سلسلة الأحداث التي أدت للحرب عند تنحي الملك الفونسو الثالث عشر من العرش و قيام الجمهورية الإسبانية الثانية و التي جاءت بدستور جديد يسن حقوق للعمال لأول مرة في التاريخ و يسلب الكنيسة الكاثوليكية من أثرها العملي و المعنوي ، و سيطر قوى اليسار على برلمان الجمهورية الثانية قبل تشرذمهم بينما توحدت الأحزاب اليمينية والذي خلق انقساما حاد في المجتمع الإسباني السياسي و الاجتماعي

وكان السنديكاليون الراديكاليون يعارضون فكرة الجمهورية فبدأوا في سرقة ونهب البنوك و الاستحواذ على السلاح بغية تحقيق حلم المجتمع الأفقي المستقل بالقوة

وفي المحيط الأوروبي كان المسرح ملتهبا فقد سيطر بينيتو موسوليني مخترع الفاشية على إيطاليا بالكامل و في ألمانيا سطع نجم ادولف هتلر و الذي حول ألمانيا إلى دولة يمينية فاشية بينما في الاتحاد السوفييتي كان ستالين يسير بخطى دموية لتحويل روسيا من دولة إقطاعية زراعية محافظة إلى دولة صناعية يسارية بوليسية

 

و رأى كل من موسوليني و هتلر من جانب و ستالين في الجانب الاخر خطر سقوط إسبانيا في محيط احد الأقطاب فبدأوا في التنسيق و تسليح حلفاءهم من اليمين و اليسار الإسباني

و في ١٩٣٦ سيطر السنديكاليون الراديكاليون على مدينة برشلونة و أحتلوا كل مبانيها من شقق سكنية و مباني اتصالات و فنادق و طردوا قاطنيها مع احتلال دور عملهم التقليدية من مصانع و محطات توليد كهرباء. كتب الأديب الإنجليزي جورج أورويل في كتاب الحنين إلى كاتلونيا و الذي كان متعاطفا مع اليسار حينها قبل الارتداد على التجربة، عن ما رآه فوصف مسيرات صباحية و ليلية راتبة لا يردي فيها الناس ملابس أنيقة، فالكل كان يرتدي أوفرول المصانع. و قد تم حرق كل كنائس برشلونة عدى ثلاثة كنائس و تم تحويل كنيسة لمستشفى ميداني

و قد تم نبش قبور الرهبان و الراهبات و عرضهم على العامة قبل حرقهم لأن الكنيسة كانت تقول ان خدامها لا تتحلل جثثهم، و انتهت التجربة السنديكالية الراديكالية عندما استطاعت حكومة الجمهورية الثانية هزيمة العمال المتسلحون و حسمهم عسكريا

و بعد عدة محاولات فاشلة من زملائه قام الجنيرال فرانسيسكو فرانكو بإعلان العصيان العسكري بغية الاستيلاء على السلطة بمساعدة إيطاليا و التي شيدت اول واكبر عملية جسر جوي حربي في التاريخ لنقل الآف الجنود الإسبان و المغاربة الذين كانوا تحت إمرة فرانكو من المغرب و التي كانت تحتل إسبانيا جزء منه لإشبيلية في جنوب إسبانيا

و كانت بريطانيا راعية مشروع عدم التدخل في حرب إسبانيا و التي كان أمنائها إيطاليا و ألمانيا دولتا العتاد العسكري التان ضمنتا هزيمة اليسار الإسباني و نصر فرانكو – فما اشبه ماضي إسبانيا بحاضر السودان اليوم!

و كانت الحرب الاهلية الإسبانية بمثابة حقل تجارب للحرب العالمية الثانية التي تلتها فإيطاليا و ألمانيا دربتا سلاح الطيران واستخدمتا الذخيرة الثقيلة و القنابل الجوية التي لم تشهدها ساحات القتال من قبل

 

و تتالى الارهاب الأحمر لقوى اليسار الذي انتقم من الطبقات العليا بقتل ما يقارب ٥٠،٠٠٠ بينما قتل الارهاب الأبيض المضاد لقوى اليمين ١٥٠،٠٠٠ و بالتأكيد العدد أكثر من ذلك كثيرا إذ انتصرت قوى اليمين

ومن المؤكد أن حصيلة حرب السودان ستكون أكثر من ذلك بكثير فإن صحت الاتهامات بأن الجيش السوداني استخدم الغاز المسم في الحرب فذلك سوف يزيد من بشاعة و وحشية هذه الحرب المدمرة بعد ارتكاب مليشيا الدعم السريع ارهابا ضد المواطنين في بيوتهم و اغتصاب النساء على نطاق واسع وسرقة ممتلكاتهم والشروع في جرائم الإبادة الجماعية ضد قبيلة المساليت الغير عربية في اقليم دارفور الغربي

إسبانيا اليوم بلد موحد متشظي فالملك الذي عقب فرانكو و أشرف على التحول الديمقراطي تنحى بعد فضائح مالية، وابنه الملك الحالي عند زيارة متضرري فالينسيا بعد الفيضانات التاريخية في ٢٠٢٤ مع زوجته و أبنتهما رشق بالطين و الحجارة، و كاتالونيا حاضنة برشلونة أقامت استفتاء احادي غير دستوري للانفصال عن إسبانيا فاز فيه الانفصاليون و مع ذلك ينتخب الإسبان حكوماتهم و يتداولون السلطة سلميا و يعبرون عن اراءهم بحرية وفق القانون

السودان دولة وليدة بالمقارنة مع إسبانيا لم توحد تحت حكم احادي في التاريخ المعاصر حتى ١٨٢٠ عندما كانت إسبانيا امبراطورية تمتد من كوبا و بويرتو ريكو في الغرب للفلبين و قوام في اقصى الشرق

تأرجح الحكم في السودان بين حكم مدني فيه تعددية سياسية يقوده حزبان طائفيان على رأسهما اقطاب طرق صوفية ، أئمة معممون و سادة منعمون يولون بالسمع والطاعة في حواضنهم في الريف و المدن القليلة آنذاك احدهما له نفوذ في الشمال و الشرق و الاخر في الوسط والغرب احدهما تجمعه علاقات دعم من احد دولتا الاستعمار (بريطانيا ومصر) و الاخر مع الأخرى، بينما الجنوب الافريقاني الهوا يتململ و يتمرد لعدم رؤية نفسه في احزاب الشمال بشريا و فكريا، ثم جاء الحكم العسكري المركزي المبسط بعد دعوة احد الأحزاب الحاكمة إلا ذلك ثم عادت نفس الديمقراطية المدنية الطائفية ثم بعد ذلك اشتراكية عسكرية فيها الحزب الواحد ثم ديمقراطية مدنية طائفية للمرة الثالثة و أخيرا استيلاء عسكري إسلاموي في ١٩٨٩ تمحور إلى تعددية صورية تحت المشير عمر البشير الذي كان عنوان فترة حكمه التفريط ، في الوحدة الطوعية وفي العلاقات الإقليمية والدولية وفي تنفيذ دستور ٢٠٠٥ وفي ثروة الشعب من البترول و في ثروة الشعب من الذهب إذا اختزلها لصالح العائلة التي تدير الدعم السريع وفي المؤسسات الوطنية لا سيم تلك التي كان على رأسها قوات الشعب المسلحة فأنشأ المليشيات لا سيما الدعم السريع وانتهى حكمه بعد ٣٠ عام اذ رفض التنحي حتى اقتران ضجر المقربين منه مع حراك الشباب المتعطش للتغيير و العنصر الخارجي المتدخل من دول تريد رسم مسار في السودان يخدم مصالحها الضيقة أيا كان الثمن

و من المفارقات ان في إسبانيا بثرائها الثقافي والتاريخي والاركيولوجي سعى الجانبان إلى تجنب الإضرار بالأماكن الأثرية مع بعض الاستثناءات مثل تدمير قرية بلتشيتي الأثرية بتاريخها الروماني و رمزيتها كمركز تعايش مسيحي، مسلم، يهودي و روعة هندستها المورية و التي تتواجد في مقاطعة سرقسطة والتي احتدم فيها القتال والتي حفظت بحطامها كمزار تذكاري لجرم الحرب إلى يومنا هذا

و كذلك متحف البرادو الشهير في مدريد قد قصف، و مع ذلك تم إخلاء وحفظ المقتنيات الثمينة و الأثرية حتى نهاية الحرب واليوم يسهل رؤيتها في متاحف ومناطق إسبانيا الأثرية العديدة

و في السودان احتل الدعم السريع اهم صرح ثقافي تاريخي وهو المتحف القومي في سابقة لم يشهدها التاريخ المعاصر من قبل، فهل المتاحف منشأت او مباني ذات أهمية عسكرية لتحتل؟

والمتحف مع صغر مساحته كان بترينة وجداننا وماضينا وفخرنا واعتزازنا بل هويتنا وهوانا فقد لخص ما فشل السياسيون عكسه في الدولة، وما سلم من بطش الدعم السريع فنهب بالكامل عدى تماثيل الغرانيت من العهود النوبية القديمة التي وزنها اطنان وعسى ان يكون ذلك هو الذي حفظها من السرقة والدمار. وكذلك متحف الخليفة في أمدرمان نهب تماما عند استيلاء الدعم السريع على المنطقة وكذلك متحف القصر الجمهوري دمر بالكامل

والإضرار لا يكمن في المقتنيات المادية مع جمالها وجلالة رمزيتها من قوارير رقيقة صنعت قبل آلاف السنين في عهد الممالك النوبية وسرج السلطان علي دينار وعملات معدنية سكت محليا و لوحات الحكام على مدى قرن ونصف، الإضرار معنوي من الدرجة الأولى نتيجته طمس وجدان جماعي لشعب بالأكمل وما ابلغ شعارات مناصري الدعم السريع “سودان قديم يتهدم، سودان جديد يتقدم” – ماديا و معنوياً

فكيف ستنتهي حرب السودان يا ترى في ظل نقيضان: طبقة سياسية ضعيفة الأداء العملي تستقواء بالأجنبي على حساب سواد الشعب السوداني جدارتها في الجدل و الشكليات على حساب الملاءمة الإجرائية لا تمارس الشورى و الشفافية بيانها ليس بالنتائج لا تقديم مصلحة الوطن والمواطن قبل المواقف الضيقة فقفل الطرق ومنع ميناء بورسودان من العمل من قبل شيخ إدارة أهلية مسيس إبان رئاسة الدكتور عبدالله حمدوك للوزراء جرم وخطيئة تستوجب المساءلة القانونية فأثرها ضر بالمواطن في عيشه وفي الاقتصاد الوطني بالتضخم وشح مواد الاستيراد الاستراتيجية لا سيم الدواء من جهة، و من جهة أخرى تعنت من لفظتهم الثورة و إصرارهم على تبوء مكان مرموق في هندسة الدولة دون أدنى تأمل ذاتي وشجاعة في المراجعة والاعتذار للجرائم و الإخفاقات العديدة التي قادت السودان إلى حالته المؤسفة حاليا.

بعد سبعين عام من انتهاء الحرب الأهلية في إسبانيا ما زالت الجراح تلتهب من حين إلى الحين. من المؤكد ان عند انتهاء حرب السودان طال أمدها ام قصر – لن ينسى ضمير الشعب ما ارتكب في حقه من جرم و لن يتناسى أبدا فحتى القديم من الحطام المدمر يتردد صداه عبر الأجيال والأزمنة إلى ما لا نهاية، وليت سودان غدا يكون كاسبانيا اليوم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..