مقالات وآراء سياسية

تناسل الخراب بين المركز والهامش

نبيل منصور

 

هذا المقال لا يبرئ أحدا ولا يُدين طرفا بعينه، بل يحاول أن يخلخل الرواية السائدة التي تصوّر الخراب كمنتج هامشي محض، وتقدّم الانتهازية كاختراع دارفوري خالص. فما يجري اليوم ليس سوى فصل جديد في قصة قديمة، عنوانها : تقاسم السودان كغنيمة، لا كمشروع وطن.

 

لقد بدأ الخراب من المركز، حين صاغ النخب سلطتها على مقاس الامتياز، لا العدالة. ثم تناسلت هذه العدوى إلى الهامش، فمارس بعضه السلوك ذاته، بعد أن كان ضحية له. من الخرطوم إلى الفاشر، من العسكري إلى المدني، من شيخ الطريقة إلى قائد الميليشيا، توارثت الأجيال سياسة النهب باسم الشرعية، وتقاسم النفوذ تحت راية الثورة أو الدين أو الوطن. فكانت النتيجة واحدة : وطن منهوب، وشعب مهمّش، وسلطة بلا ضمير.

 

إن تصوير حركات دارفور كأنها وحدها من تعرقل تشكيل حكومة تكنوقراط، بإصرارها على التمسك باتفاق جوبا واستمرار استغلال السلطة عبر ابتزاز حكومة بورتسودان بما تقدمه من خدمة في ميدان العمليات، هو اختزال مضلل للواقع، ومحاولة لتغبيش وعي الناس وصرف أنظارهم عن الجذور الحقيقية لهذا السلوك، ومن هو أول من شرّعه ومارسه بلؤم ووقاحة منذ الاستقلال.

 

صحيح أن بعض هذه الحركات قد تورطت بالفعل في ممارسات انتهازية ونهب منظّم، لكن حصر التهمة فيها فقط يعبّر عن نظرة مركزية قاصرة، تتغافل عن منظومة الحكم العميقة التي ظلّت تنهب البلاد بثياب الدولة والمؤسسات، وتحوّل السياسة إلى غنيمة، والثورة إلى صفقة.

 

لكن، لنكن واضحين : هل حركات دارفور وحدهم الانتهازيون؟

قطعاً لا. فما فعلوه – في تمسكهم بالمحاصصة ورفضهم لاي حكومة تستثنيهم – ليس سوى امتداد لنمط سوداني قديم ومتجذر، مارسته النخب المركزية لعقود طويلة، وكرّسته باسم الشرعية والمصلحة الوطنية. ما تغيّر فقط هو الجغرافيا، أما الانتهازية نفسها فهي قديمة، وهي أحد أسباب انهيار مشروع الدولة وتآكل ثقة الناس في أي مسار للتغيير.

 

ما تغيّر هو فقط الموقع الجغرافي والعرقي لمن يمارس هذا السلوك، أما الفكرة الانتهازية نفسها فهي قديمة، وهي أحد أسباب خراب السودان وتآكل ثقة الناس في أي مشروع وطني.

 

من سرق السودان إذن؟

 

سرقته المنظومة السياسية بكل أطيافها، حين جعلت من الدولة غنيمة، ومن الشعب مورداً يُستنزف، لا شريكًا يُحترم.

 

لقد تشكلت الدولة السودانية على نمط سلطوي-مركزي، يحتكر فيه القرار والثروة، ويقصي ما عداه، ويمنح “الولاء” قيمة أعلى من “العدالة/ الكفاءة”. وفي هذا السياق، لم تكن حركات دارفور سوى إحدى إفرازات هذا الظلم المتراكم. بعضها حمل السلاح غضباً، وبعضها أغرته السلطة فاندمج فيها وكرّر ذات السلوك.

 

ولكي تتضح الصورة اكثر لابد ان نسأل ما هو الهامش إذن؟

 

ليس الهامش مجرد أطراف جغرافية تُركت بلا خدمات.

الهامش، كما أراه، “هو كل من لا يملك سلطةً ولا منفذاً عليها ولا تمثيلاً فيها”.

 

“إنه الحرمان البنيوي، لا مجرد البعد المكاني”.

 

وقد يكون الهامش في معسكر نازحين، أو في حيّ شعبي وسط العاصمة، أو في جامعة مفرّغة من محتواها، أو حتى في فكرٍ مستنير محاصر بسلطة الجهل والدين المؤدلج.

 

بهذا المعنى، فإن الهامش ليس دارفور وحدها، ولا الشرق، ولا جبال النوبة.

بل ربما يكون الهامش الحقيقي هو كل من حُرم من القرار، ولو كان في مكتب وزاري.

 

والمركز قد يكون شيخ طريقة أو ضابطا في جيش، أو قائد ميليشيا، أو نخبويا يتحدث بلغة ناعمة لكنه يمارس إقصاءً ممنهجاً.

 

من يسرق السودان إذًا؟

 

من يسرق السودان ليس من يحمل سلاحا فقط، بل من يصوغ القوانين لتبرير النهب، ويُحيل المال العام إلى “امتيازات”، والسلطة إلى “حصص”.

 

من يسرق السودان هم أولئك الذين يقتسمون الدولة كما تُقتسم الغنيمة، سواء أكانوا ببدلات عسكرية أو ربطات عنق. من استبدلوا حقوق الأقاليم بالوزارات، والأحلام بالصفقات.

 

السلطة كشبكة وكمركز وهمي وهامش مخترع:

 

غالباً ما تُفهم السلطة ككيان جغرافي أو وظيفة إدارية، لكن في حقيقتها، كما يطرحها عدد من الفلاسفة، هي شبكة غير مرئية من العلاقات، تعمل من خلال اللغة، والمؤسسات، والأخلاق، وحتى مفاهيم الوطنية. وهذا يعني أن “الهامش” ليس بالضرورة موقعا جغرافيا، بل قد يكون موقفا أخلاقيا مناهضا لبنية القهر، حتى لو كان داخل القصر الجمهوري.

 

كما أن المركز قد يعيش في عقل من يدّعي التمرد، إذا أعاد إنتاج أدوات الهيمنة نفسها : القبلية، التسلط، احتقار الآخر، والصفقات المغلقة.

 

بالتالي، فإن الانتماء الحقيقي للهامش أو للمركز لا يُقاس بالموقع، بل بالوعي.

 

لا خلاص بدون وعي:

 

أخطر ما في الأمر أن كثيرا من اللصوص يُقدَّمون كرموز وطنية، فقط لأنهم ينتمون للمركز أو يتحدثون بلغة السلطة. بينما تُشيطن مقاومة الهامش لمجرد أنها لا تنطق بلغتهم أو لا تمر عبر قنواتهم.

 

وهنا يكون الخطر الأكبر:

أن تُختزل القضية في جغرافيا، بينما هي مسألة بنية كاملة تُعيد إنتاج نفسها كل مرة، بشخصيات مختلفة، لكن بمنهج واحد.

لهذا، لا بد من تفكيك هذه البنية. لا بمحاربة دارفور ولا بحماية الخرطوم، بل بخلق مشروع وطني جديد يُعيد تعريف السلطة، ويكسر احتكار القرار، ويصنع مركزاً جديداً من الهامش – لكل الهامش، شمالا وجنوبا، شرقاً وغرباً.

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..