من ظلمة الإصلاحية إلى مرارة الهوية : قراءة نقدية في سردية “مرشي الهجاجيل” لرحمة البحيري

د. عبد المنعم همت
المقدمة : رحمة البحيري وصوت الحافة
تتقدّم الكاتبة التونسية رحمة البحيري في نصّها “مرشي الهجاجيل” بشجاعة من نوع خاص، لا شجاعة المجابهة المباشرة، انها شجاعة الاقتراب من الجرح دون تخدير، ومن الحافة دون وهم التوازن. إنّها تدخل إلى مناطق مسكوت عنها، وتحرّك طين الذاكرة الجمعية من عمقه، فتكتب نصًا يُشبه صرخة مبحوحة من قاع المجتمع.
في هذا العمل، تكتب البحيري بلسان شابٍ خرج من مؤسسة إصلاحية، ليجد نفسه في مواجهة إصلاحية أخرى: المجتمع. سردها ليس توثيقيًا، ولا مجرد تسجيل لحكاية من الهامش، لعله مشروع جمالي بقدر ما هو أخلاقي، مشروع يحمّل الكلمة وظيفة الشهادة على زمنٍ يسحق أبناءه الهشّين.
من الإصلاحية إلى السوق، ومن الحلم إلى الجريمة، ومن الحب إلى العنف، تنسج الكاتبة نصًا مفعمًا بالأسئلة، بالعار، وبشظايا الذات المهدورة. ومن هنا تنطلق هذه الدراسة لتحليل هذا النص من زوايا متعدّدة : الاغتراب، الجسد، الذكورة، السوق، اللغة، والكتابة نفسها بوصفها مواجهة مصيرية.
المحور الأول : من الإصلاحية إلى متاهة الحياة – الخروج كخديعة
في الأدبيات التقليدية، يُمثّل “الخروج من السجن” لحظة انعتاق، بوابة نحو أمل، فرصة جديدة. غير أنّ رحمة البحيري تقلب هذه القاعدة رأسًا على عقب؛ فالبطل، أو الراوي، لا يخرج إلى نور، بل إلى غربة أفدح، واغتراب أعمق. في أول مشاهد النص، يطلّ علينا الراوي وهو يتأمل السماء كما لو أنه يراها للمرة الأولى، ليقينه بأنّ الحياة قد صارت أكثر اتساعًا، لكنها أكثر رعبًا أيضًا:
“السماء، تمعّنت … أحسست بصرخة اغتصّت في حنجرتي…”
هنا صدى صرخة وجودية، صرخة الوليد خوفًا من الحياة ، وكأن الحياة نفسها نوع من السجن المؤجل.
الخروج لا يعيد للراوي حريته، لكن يضعه في مواجهة “حرية الآخرين”، تلك التي تُمتحن بعين المراقبة، وبأسئلة النبذ، وبنظرات العار. ومنذ اللحظة الأولى، تتجلّى مأساة السجين السابق : أنه خرج، لكنّ “اسمه” بقي في الداخل، وصمته تبقّى على الجدران، وعار سجنه يسبقه حيثما ذهب.
الكاتبة هنا توظّف تقنيات تيار الوعي، إذ لا تُقدّم لنا حكاية خطيّة، بل تأمّلات، شرارات، ومقاطع من الذاكرة المتكسّرة، توحي بأنّ الداخل والخارج مجرد تقسيمات مزيّفة، فالخوف هو نفسه، والرفض هو نفسه، حتى وإن تبدّل السقف.
إن البطل لا يستردّ ذاته بالخروج، بل على العكس، يتخلّى عن “الذات القديمة”، ويبدأ رحلة التماس مع مجهول لا يمنحه الأمان، بل يضعه في اختبار الاندماج المستحيل، في وطنٍ يُرَبّي أبناءه على “المؤقت”، ويمنحهم هوية مشروطة بالسجّل العدلي لا بالقلب أو الرغبة.
لعلّ أجمل ما في هذه المرحلة من النص هو الانكسار الصامت، الانكسار الذي لا يُقال صراحة، هو انكسار يُلمّح إليه من خلال لغة ملغومة، حزينة، ناعمة كالماء لكنها جارحة كالشظية. كلّ جملة فيها بقايا صوت، وبقايا حلم، وكثير من الشكّ في أن “الخارج” أفضل من “الداخل”.
وهكذا، لا يُقرأ الخروج هنا إلا بوصفه عبورًا من سجن واضح إلى سجن مبهم، من نظام مغلق إلى واقع فوضوي، من حبس الجدران إلى قيود الهوية والشارع والذكورة والطبقة.
المحور الثاني : تفكيك بنية الهوية المهدورة في السرد
منذ اللحظة الأولى لخروجه، يُطرح على البطل سؤال جوهريّ دون أن يُقال مباشرة : “من أنت؟”. لا يُسأل السؤال بصيغة فلسفية مجردة، بل ينبعث من صمت الناس، من نظرات الأقارب، من واجهات المدينة، ومن صوت الأم الغائب. هذا السؤال ـ الذي يُفترض أن تكون له إجابة جاهزة في مجتمعات مستقرة ـ يتحول هنا إلى لعنة.
الهوية، كما يعرضها النص، ليست ثابتة ولا راسخة، لكنها هشة، تتفكك مع الزمن، وتُعاد تشكيلها حسب نظرة الآخر، لا حسب قناعة الذات. يُقدّم الراوي نفسه ممزقًا بين ماضٍ لا يُغتفر، وحاضر لا يمنحه سندًا، ومستقبل لا يحمل سوى الظلال. هو لا يملك اسمًا يُعرّف به نفسه، بل ماضيًا يطارده:
“من دخلته نكرة، يسكنه ألم…”
“من البيت إلى الإصلاحية، من الإصلاحية إلى السوق … من أنا وسط كل هذا؟”
ينزف النص اعترافًا خفيًا بأنّ هذا الإنسان ليس ضحية فقط، هو أيضًا شاهد على انهيار كل أدوات تثبيت الهوية : العائلة، المدينة، التعليم، الحب. فقدان الأم ليس فقط فقدًا عاطفيًا، يشار اليه كانهيار لجذر التعريف الأول بالذات. غيابها يصنع فراغًا لا تملأه المدينة ولا السوق ولا القريب. وهي، مثل الوطن، حين تغيب، لا يعود للمرء سوى أن يبحث عن بديل مشوّه.
ثمّة تمزّق إضافي في صورة الأب، الذي غاب، أو غُيّب، دون أثر. من دون أم ولا أب، لا يعود الإنسان طفلًا يمكنه أن يطلب الحنان، بل مشروع مجرم محتمل. في هذا السياق، تصبح الهوية عبئًا، لا وسيلة تعريف، ويتحوّل الاسم إلى “وصمة”، والوجه إلى قناع ثقيل.
يلعب السوق، والمدينة، والناس أدوارهم في إعادة تشكيل هذه الهوية بعيونهم : هو “الولد الخارج من الحبس”، و”صبّاب السوق”، و”من دون مستقبل”. هذه الصفات تحكم. تصبح اللغة أداة نبذ، والهوية سجنًا غير مرئي.
الكاتبة توظّف هذا التيه ببراعة، عبر تفاصيل الحياة اليومية : الحيرة أمام العمل، الانكسار في الحانة، التوتر أمام المرأة، الاشتباه في كل عاطفة، والرغبة العميقة في أن يُرى الإنسان كما هو، لا كما يقال عنه.
وهكذا، تتحول الهوية من سؤال وجودي إلى جرح اجتماعي. يُطلب من البطل أن يُجيب : “من أنت؟”، لكنه لا يستطيع، لأنه ببساطة : لم يعد أحد.
المحور الثالث : الجسد كحيّز للصراع الطبقي والجندري
في سردية “مرشي الهجاجيل”، يُقدَّم باعتباره نصًا ثانيًا موازياً للنص اللغوي، يحكي انكسار الراوي، وارتباكه، واحتقانه. الجسد هنا البطل الحقيقي للنص، المراقَب والمُدان والمشغول بالحفاظ على ذاته من الانهيار الكامل.
منذ لحظة الخروج من الإصلاحية، يبدو الجسد وكأنه في حالة دفاع، جسد غير مصدّق أنه حرّ، لكنه أيضًا غير قادر على أن يعيش حريته. جسد مذعور من نظرات الناس، من ذاته، من تاريخه. في مشهد السوق، يتجلى هذا التوتر بوضوح، حين يتعرّق الشاب من حرارة القيظ، لكنه لا يخلع قميصه فقط بسبب الطقس، يقوم بهذا أيضًا ليقول شيئًا للجمهور : انظروا إلى هذه العضلات … أنا موجود. أنا قوي. لا تقتربوا.
“شدّة العضلات فرضت على الجميع احترامك … شعب يحترمك من المظهر…”
هنا يظهر الجسد بوصفه أداة بقاء. لا هو للتعبير، ولا للّذة، ولا للحب. الجسد يعبر عن الدفاع عن الذات داخل فضاء معادٍ. هوية الجسد، بوصفه ذكوريًا، تتعرض لاختبار قاسٍ؛ فحين لا يملك الشاب عملًا، أو مستقبلًا، أو سندًا عائليًا، لا يبقى له سوى جسده وسيلة لإثبات الرجولة.
لكن الجسد لا يبقى في موقف دفاع فقط. حين يدخل في لحظة التماس مع الجسد الأنثوي في مشهد غرفة القياس، تظهر هشاشته الحقيقية. النهدان المكشوفان لا يُثيران فيه الذكورة، بل الرعب، الذكرى، الاشمئزاز، والخوف من الابتلاع. إنّه يرى في المرأة ليس الجسد الآخر، يرى فيها تهديدًا للتماسك الداخلي، ومرآة لألمه الأوّلي مع الأم الغائبة والعشيقة الخائنة.
التحوّل من الافتتان إلى الانقباض، ومن الرغبة إلى العنف، ليس فقط مسارًا نفسيًا، بل سياسي. الجسد هنا هو ساحة تصطرع فيها الذكورة الجريحة مع الأنوثة المتحدّية، والطبقة المقهورة مع السلطة الرمزية. حتى الاعتداء في النهاية ؤأتي كصرخة جسد لم يجد وسيلة أخرى للصراخ.
تكتب رحمة البحيري الجسد كمن يكتب على ورقة من نار. لا تُزيّنه، لا تُطعّمه بالشعر، بل تُعرّيه، وتتركه يتكلم بكل ما فيه من انكسار، من توق، ومن تناقض. ولعلّ هذا ما يجعل النص فريدًا : أنّه يكتب “اللحمة” لا الرموز، ويجعل من الجسد لغة مستقلة، كاملة، ودامية.
المحور الرابع : تمثّلات المرأة — بين الأمومة الغائبة والأنوثة الكاسرة
في نص «مرشي الهجاجيل»، تظهر المرأة بوصفها كائن مركّب، حامل لتناقضات شديدة العمق، وفاعل في تشكّل مأساة البطل. تتعدد صور المرأة في النص، لكنها في جميع تمظهراتها ليست ملاذًا، بل شبحًا معتمًا، يتربّص ويُذكّر ويُهدّد.
أولى هذه الصور هي الأم الغائبة، التي تمثل الفقد المؤسس، الجرح الأول. انهيار للثقة الأصلية في العالم. فالأم التي لم تزره في سجنه، والتي “هربت” من حياة ابنها، تصبح الحاضرة-الغيبة في كل تفاصيل النص. حتى في اللحظات التي يفترض أن يكون فيها البطل حرًّا، يشعر بظلها يحاصر قلبه: غيابها ليس موتًا، بل خذلان متجذر في الوعي واللاشعور معًا.
المرأة الثانية، التي تدخل غرفة القياس، تتجسد في صورة نقيضة تمامًا. لا تأتي بشفقة الأم، ولا بعذرية الحبيبة، تأتي بذكاء المفترسة التي تدرك هشاشة الراوي، وتستخدم الأنوثة بوصفها سلاحًا للسيطرة. هذه المرأة تعرض الجسد لمقايضة فاسدة، حيث يتحوّل الجمال إلى وسيلة ابتزاز، والأنوثة إلى طُعم. إنها امرأة تعرف أنها “تُرى”، وتُوظّف هذه الرؤية لفرض هيمنتها.
في كلا الحالتين، نجد المرأة قادرة، نافذة، حاسمة. حتى حين تبتسم، فهي تبتسم بنوايا مزدوجة. الأنثى في هذا النص لا تأتي لتعالج الرجل المجروح، بل لتكشف هشاشته، ثم تضعه في مأزق وجودي جديد: إما أن يخضع، أو أن ينفجر.
وتقدّم رحمة البحيري صورة المرأة المحترفة في عالم السوق — لا السوق التجاري فحسب، بل السوق الأخلاقي أيضًا. فهي تعرض، وتساوم، وتخدع، وتسجّل مقاطع فيديو، وتُهدد. الأنثى هنا ليست موضوعًا للرغبة، بل قوة تُعرّي الذكورة المأزومة، وتضعها أمام مرآة نفسها من دون رتوش.
لكن رغم قسوة هذا التمثيل، لا تقع الكاتبة في فخّ الشيطنة. فهي لا تُدين المرأة، بقدر ما تُظهر كيف أجبرها المجتمع على أن تكون كذلك : ذئبة في غابة، مفترسة كي لا تُفترَس. بل ربما أرادت القول : حين يسقط الأب، وتغيب الأم، وتخون المدينة، لا يبقى للمرأة سوى أن تتقن النجاة، بأيّ ثمن.
المحور الخامس : “مرشي الهجاجيل” – السوق بوصفه استعارة للخراب المجتمعي
يُقدّم “مرشي الهجاجيل” في نص رحمة البحيري كفضاء مكانيّ عابر أو مجرّد مسرح للأحداث، في الحقيقة يُرسم بعناية بوصفه بنية اجتماعية مركبة، مشبعة بالرموز، ومثقلة بالدلالات الطبقية والأخلاقية والسياسية. إنه سوق ليس للبيع والشراء فقط، بل لتبادُل المعاني والسلع والأوهام والهيمنة، ولتعليق المصائر في خيوط من الدخان.
إنّ هذا السوق الشعبي، المكتظّ بروائح الروبافيكا والعرق والخصومات، يقيم على الفقر مسرحةً كاملةً للحياة وللسقوط اليومي للكرامة. في هذا المكان، يتساوى الجميع شكليًا: الغني والفقير، الذكر والأنثى، صاحب السيارة والراجل، لكنّ المساواة هنا خدعة بصرية؛ فالسوق يُخفي في طيّاته تراتبيات دقيقة: من هو الذي يبيع؟ من يشتري؟ من يفاوض؟ من يخاف من من؟ من يتحكم في من؟
يعمل البطل في السوق كـ”صبّاب” — وهي وظيفة هامشية، تُوكل غالبًا لمن لا وظيفة له ولا حيلة — رجلٌ يُكلّف بمراقبة السارقين، لكنه نفسه مكشوف الظهر، تُسرَق روحه كلّ يوم. السوق هنا لا يرمز فقط إلى الاقتصاد، بل إلى نظام اجتماعي عنيف، يُبقي الضعفاء في الأسفل، ويمنح الأقوياء أدوات المراقبة والتأديب.
كلّ شيء في السوق يُباع : الجسد، الذوق، الأخلاق، القيم، وحتى الحلم. تصبح الملابس المستعملة رمزًا للهوية المتهالكة، التي تُرتدى يومًا وتُرمى في اليوم التالي. كل قطعة قماش لها ماضٍ، وكل بضاعة تُخفي حكاية ألم. يتكرّر ذكر أكياس الملابس، وأسماء الماركات المهترئة، والتهافت على “أحلى كميّة عند عادل الستو”، وكأن الكاتبة تقول لنا : في هذا السوق، الإنسان نفسه هو السلعة.
ويتجلّى السوق كحيّز للنزاع الطبقي أيضًا: النساء من “أعيان البلاد” يتخفّين، يتوسّلن تخفيض السعر، ويمارسن نوعًا ناعمًا من التسوّل الرمزي. أما البائعون الفقراء، فهم منشغلون بإرضائهنّ، لا لأنهنّ زبونات، بل لأن السوق يجعل من الجوع أداةً للترويض.
تقدّم البحيري “مرشي الهجاجيل” كمرآة للمدينة الحديثة التي أكلت أبناءها، ودفعت بهم إلى أن يتحوّلوا إلى عتّالين في اقتصاد السقوط، وتجارًا في سوق الفقر، ومجرد أرقام في فوضى التفاوت الطبقي المتوحش.
المحور السادس: عنف اللحظة المأزومة – تفجّر القهر في الجريمة
في القسم الأخير من النص، تبلغ الحبكة ذروتها، عبر انفجار داخلي مفاجئ، لكنه كان مهيّأً له من أول جملة. البطل الذي ظلّ يكبت، ويتحمل، ويقمع توتراته بين السوق والجسد والعار، يجد نفسه أخيرًا في مواجهة لا مفر منها: خيار بين خضوع صامت لمساومة قذرة، أو تفجّر عنيف لا يعود بعده كما كان.
مشهد الجريمة الذي تختم به رحمة البحيري نصّها ليس فعلاً جنائيًا تقليديًا. إنه فعل رمزي، كثيف، متشظٍ، ووجودي في عمقه. فالاعتداء الجسدي على المرأة المبتزّة لا يُقرأ كحركة عنف ذكوري ضدّ أنثى فحسب، لكن بوصفه انهيارًا تامًا للذات أمام جدار الهشاشة الذي صار مطبِقًا من كل الجهات.
“أمزق شعرها … أكسر الهاتف … أهشّم رأسها … أصرخ … أبكي … أسقط…”
ليست الجريمة هنا قتلًا، بل ولادة مشوّهة من رحم الفقد، من أمومة غائبة، ومن وطن مطرود.
الراوي لا يقتل من أجل الشرف، ولا المال، ولا الغيرة، بل كمن يُعلن إفلاسه الوجودي. لقد جُرّد من كل أشكال الحماية : لا بيت، لا أب، لا أم، لا وظيفة، لا انتماء، لا حب، لا معنى. كل ما تبقّى له هو جسده، ولما أصبح الجسد نفسه أداة يُساوَم عليها، لم يجد إلا العنف ليعيد ترسيم حدوده الأخيرة.
رحمة البحيري تتعامل مع هذا الانفجار باقتصاد لغوي بارد. لا تمجّد الجريمة، ولا تحوّلها إلى انتقام مشروع، لكنها تتركها تحدث كما تحدث الزلازل: فجأة، وبلا تفسير أخلاقي جاهز. القارئ لا يُطلب منه أن يتعاطف أو يدين، بل أن يُصغي إلى ما وراء العنف : إلى الوجع، وإلى الخوف، وإلى انهيار المعنى.
ثم تأتي النتيجة : سجن جديد، لكن هذه المرة في “الهوارب”، لا الإصلاحية. وكأن الراوي — بعدما فشل في أن يُصلَح — حُكِم عليه بأن يُباد رمزيًا. الحكم ليس فقط قضائيًا، بل أيضًا مجتمعيًا : أنت لست قابلًا للاندماج، ولن تكون. أنت الذئب، أو الذبيحة. والراوي اختار، في لحظة ذعر، أن يكون الذئب … لكن بعد فوات الأوان.
وهكذا، تحوّل العنف في “مرشي الهجاجيل” إلى لغة ثانية للكشف. عنف يخرج من عمق القهر، حين لا يجد المقهور طريقةً أخرى ليقول : “أنا موجود. أنا موجوع. اتركوني أو اقتلوني”.
المحور السابع : اللغة والسرد – بين التوثيق والاعتراف
من أبرز ما يميّز نصّ «مرشي الهجاجيل» هو لغته المتفلتة من القوالب، لغة هجينة لا تخضع لتصنيفات نهائية، لأنها ببساطة لغة جُرِّبت في الحريق، لا في المعجم. تكتب رحمة البحيري بلغة تقوم على التماس العاري مع التجربة، لغة ليست محايدة، بل تنبض بوجع الذات، وتقطر توترًا من كل سطر.
في هذا النص، يتوارى السرد الكلاسيكي ذي الحبكة المصقولة لصالح سرد الاعتراف؛ سرد تشظّي الذات، لا سرد ترتيب الوقائع. ليهتم النص بمن تألم ومتى وكيف ولماذا استمر في العيش. ولعل هذا ما يمنح “مرشي الهجاجيل” قوّته السردية: أنّ البناء السردي نفسه يُحاكي تمزّق الراوي النفسي، واختلاط الأزمنة بداخله.
تنتقل اللغة بسلاسة من التقريري إلى الشعري، من اليومي إلى الرؤيوي، من الجسد إلى المجاز، من اللعنة إلى الرجاء. لكنها – طوال الوقت – تبقى أمينة لنبرة الداخل، للحميم، للمنكسر، للصوت الذي لم يُتح له الكلام من قبل.
كذلك، يختلط في النص الفصحى بالدارجة التونسية، لا لتزيين المشهد أو لإضفاء محلية سطحية، بل لأنّ هذه الهجنة تعكس عمق الأزمة: أزمة الهوية، وأزمة اللغة، وأزمة التعبير. الكلمات تتقطّع أحيانًا كما تتقطّع أنفاس الراوي. الجمل تنتهي فجأة، ثم تستأنف بلا رابط نحوي، تمامًا كما تستأنف الحياة في واقع مكسور لا يعطي إنذارًا بانكساراته التالية.
في «مرشي الهجاجيل»، تصبح الكتابة نفسها فعل نجاة، ومقاومة صامتة. الكلمة تُكتَب كأنها تُهمَس في أذن الغياب، أو تُلقى في قارورة وترمى إلى بحرٍ لا يُنتظر منه رد.
الخاتمة
يعتبر «مرشي الهجاجيل» نصًا يُعاش من الداخل، كحريق خافت يترك أثرًا في الروح. في هذا العمل النابض بالمرارة النبيلة، تنجح رحمة البحيري في نقلنا من سطح الحكاية إلى عمق الجرح، ومن وصف الحدث إلى معايشة الانكسار.
تكتب البحيري بصوت كائن مسحوق، يقاوم التبخر في مجتمعه، ويتمسك بالبقاء من خلال التشظي. ما يبدو للوهلة الأولى سردًا لمرحلة ما بعد السجن، سرعان ما يتحول إلى أطلس رمزي للخذلان الإنساني، حيث تنهار مؤسسات الانتماء واحدةً تلو الأخرى: العائلة، المجتمع، المدينة، الجسد، اللغة.
اللغة في هذا النص أداة بوح جريح، تكتب العالم كما يُشاهد من قاعه لا من أعاليه. إنها كتابة تسعى إلى إيقاظ ذلك الجزء من وعينا الذي خدرته البلاغة وزخرف القول.
إن «مرشي الهجاجيل» ليس أدبًا سجينًا في محفل الاعترافات، ولا مجرّد محاولة تبرير أو تظلم، انه صرخة سردية ضدّ التواطؤ المجتمعي مع الصمت، واحتجاج جمالي على آليات القمع الخفيّة التي تمارسها المدينة على أضعف أبنائها. وفي جوهره، هو أيضًا دعوة متوارية لأن نصغي جيدًا إلى ما تقوله الأطراف المهشّمة، فثمة في همسها ما يعيد تعريفنا، لا بهم، بل بأنفسنا نحن.