مقالات وآراء

من الثورة إلى الارتزاق: الحركات المسلحة بين خيانة المبادئ وارتهان القرار

عمار سعيد

من يتتبع مسيرة الحركات المسلحة السودانية، وخاصة تلك الموقعة على اتفاق جوبا للسلام، يجد نفسه أمام مشهد درامي بالغ التعقيد، تتبدل فيه المواقف بتقلب المصالح، وتتلاشى فيه المبادئ أمام إغراءات السلطة والمال. فقد كشفت الحرب الأخيرة في السودان، منذ اندلاعها في أبريل 2023، عن حجم التصدع الأخلاقي والسياسي في جسد هذه الحركات، وأظهرت تهافت قادتها على مواقع النفوذ في ظل سلطة عسكرية مهزوزة تتخبط في بقائها.

إرث الدم والتحالفات المتقلبة

لأكثر من عقدين، قاتلت الحركات المسلحة، وعلى رأسها حركة تحرير السودان وحركة العدل والمساواة، ضد الجيش السوداني تحت شعارات نبيلة كـ”الحرية والعدالة والمساواة”. قدمت تلك الحركات آلاف الضحايا من أبناء الهامش، واستطاعت أن تحشد تعاطفًا شعبيًا واسعًا، خصوصًا في دارفور وكردفان، كما وجدت دعمًا دوليًا باعتبارها حركات مقاومة مشروعة ضد تهميش الدولة المركزية.

غير أن ما تبع اتفاق جوبا للسلام في 2020 كان كاشفًا لحقيقة أخرى؛ فقد انتقلت تلك الحركات من خنادق القتال إلى فنادق السلطة، وتفرغ قادتها للتفاوض على المناصب والامتيازات بدلًا من تحقيق المطالب التي حملوا السلاح لأجلها.

من الحياد إلى الارتزاق

مع اندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع، تبنّت بعض الحركات المسلحة موقف الحياد، إلا أن هذا الحياد لم يصمد طويلاً. تحت ضغوط التهديد والوعود بالمناصب، دخلت قوات تابعة لحركتي مني أركو مناوي وجبريل إبراهيم في تحالف فعلي مع الجيش، لتصبح أداة جديدة في معركته ضد الدعم السريع. هذه الخطوة لم تكن نابعة من رؤية استراتيجية بقدر ما كانت مراهنة خاسرة على تقاسم الغنائم في “أقذر مساومة وطنية” تشهدها البلاد.

أما بقية الحركات، مثل فصيلي مالك عقار والتوم هجو (تنبور)، فتم تجاوزهم بالكامل، لأنهم ببساطة لا يمتلكون الثقل العسكري أو السياسي، وتحولوا إلى ظلال في مسرح لا مكان فيه إلا لأصحاب السلاح والمصالح.

الصراع في بورتسودان: حلفاء الأمس أعداء اليوم

اليوم، وبعد أن انهارت معظم وعود اتفاق جوبا، تجد الحركات المسلحة نفسها في صراع مرير مع الجيش ذاته الذي تحالفت معه. تتصارع الأطراف في بورتسودان على فتات السلطة والمناصب، وكل منهم يدّعي الشرعية والتمثيل بينما يتجاهلون أصوات ضحايا الحرب وتطلعات أهل الهامش.

لم يعد خافيًا أن هذه الحركات، أو على الأقل مراكز القرار فيها، قد تحولت إلى مجموعات من المرتزقة السياسيين، لا فرق بينهم وبين أي ميليشيا عابرة، هدفهم الأساس هو الحفاظ على مواقعهم واقتناص ما يمكن من الموارد والامتيازات.

الجيش وميليشياته: تشبث بالسلطة وتجنيد عشوائي

في المقابل، يكشف أداء الجيش عن حالة من الانهيار القيمي والإداري، حيث لم يعد يملك مشروعًا وطنيًا سوى البقاء في السلطة بأي وسيلة. فبدلاً من بناء جيش محترف، انخرط قادة الجيش في تجنيد الميليشيات وتوزيع السلاح على أساس قبلي وجهوي، مما عمق الانقسام الاجتماعي وأفقد الدولة ما تبقى من تماسكها.

يظهر قادة الجيش اليوم كلصوص سياسيين، جل همّهم هو المحافظة على مكتسبات طبقة طفيلية شكلت تاريخيًا العمود الفقري للدولة المركزية المستبدة، مستخدمة في ذلك كل أدوات التضليل والتحريض على القتال.

انكشاف المشروع وانعدام الثقة الشعبية

لقد أدت هذه التحولات المتسارعة إلى تقويض ما تبقى من شرعية الحركات المسلحة في نظر قواعدها الشعبية. ففي ظل استمرار النزاع المسلح وارتفاع الكلفة الإنسانية، بات من الواضح أن شعارات الحرية والمساواة لم تكن سوى أوراق توت تخفي أطماعًا شخصية وفئوية.

ما عاد أبناء الهامش يرون في جبريل ومناوي وغيرهم من قادة الفصائل المسلحة رموزًا للنضال، بل صاروا يُنظر إليهم كأمراء حرب لا همّ لهم سوى ملء الجيوب وتثبيت النفوذ في عواصم الشتات أو فنادق بورتسودان.

لا حياد بعد اليوم

تحاول بعض هذه الحركات اليوم أن تعود إلى خطاب “الحياد” أو حتى أن تلوّح بإمكانية مقاتلة الجيش مجددًا، لكن اللعبة انكشفت، والشارع السوداني، وخصوصًا في مناطق الهامش، لن يُخدع مرة أخرى بسهولة. لقد كتب الدم السوداني في كل من الخرطوم والفاشر ونيالا والجنينة نهاية مرحلة كاملة من التلاعب بالشعارات، وفتح الباب لمساءلة جادة لكل من شارك في هذه الحرب القذرة، سواء كانوا جنرالات بزي رسمي أو قادة حركات بثياب الثوار.

لن يكتب التاريخ لهذه النخب سوى أنها تآمرت على شعبها وباعت قضاياه في سوق المساومة الوطنية. أما التغيير الحقيقي، فلن يكون إلا بإرادة شعبية تنبع من القواعد، تقطع الطريق على المرتزقة، وتستعيد السودان لأهله.

إدراك نيوز

تعليق واحد

  1. سلمية الثوره هى التى أغرت هذه الحركات بالتآمر عليها. كان ذلك واضحآ بإصرارهم دخول العاصمه بقواتهم مسلحة ومن ثم الإتفاق مع العسكر على الغدر بالثوره. يجب على قوى الثوره الإنتباه ولو متأخرآ والعمل على توعية من تدعى هذه الحركات تمثيلهم فهؤلاء هم مجرد باحثين عن السلطه والثروه لأنفسهم والدليل أنهم لم يقدموا لمن يمثلوهم شيئآ وفى المقابل عطلوا الثوره بما خدم النظام البائد وحلفاءه العسكر. يجب أن تتكون أحزاب سياسيه مدنيه فى حواضن هذه الحركات وتجد التضامن من القوى المدنيه فى كل السودان وتضع برامجها لخدمة هذه الحواضن ساحبة البساط من هؤلاء الإنتهازيين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..