مقالات وآراء سياسية

الدجال بعينٍ واحدة : حين يتحوّل القلم إلى عصا عسكرية!

حسن عبد الرضي الشيخ

 

يقولون : (ديل الكلب عمره ما ينعدل)، ونتساءل : من سمع منكم بكوزٍ سابق؟ ويصدق فيه المثل : (يكاد المريب يقول خذوني). صحفي تعرفونه، كتب مقاله وكأنما يتكئ لا على بصيرة، بل على غبار كثيف يغشى العقل والفؤاد.

 

حديث المدينة ليوم السبت ٢٨ يونيو ٢٠٢٥م، لم يكن سوى عظة جوفاء من “أستاذٍ متعالٍ”، يتظاهر بالحكمة، ويوزّع النصح على “تلاميذ” تصادف أنهم، في الواقع، قيادات لأحزاب سودانية عريقة، ذات حضور تاريخي وثقل شعبي، اتفقنا معها أو اختلفنا.

 

عثمان ميرغني في مقاله هذا، يرتدي قناع الحياد بينما هو غارق حتى أذنيه في الاصطفاف الأعمى مع أحد أطراف الحرب : جيش الانقلاب والتمكين، جيش البرهان وفلول نظام الإنقاذ، الذي يُصر الكاتب على تسميته – زوراً وبهتاناً – بـ”الجيش السوداني”.

 

ويكفينا هذا التواطؤ المكشوف، والمثال البائس. فانظر كيف يخاطب عثمان تلك الأحزاب كأنها في حاجة إلى من يلقنها دروساً في الوطنية و”الرشد السياسي”، متناسياً أن هذه الأحزاب كانت في طليعة من تصدى للطغيان، وقد دفعت أثماناً باهظة من دماء قادتها ومناضليها، بين من سُجنوا، أو شُرّدوا، أو اغتيلوا على يد أنظمة العسكر والاستبداد.

 

ثم لا يجد عثمان لتدعيم موقفه “الموضوعي جداً” سوى الاستشهاد بأحد أسوأ طغاة القارة : إسياس أفورقي، الرئيس الإريتري الذي حوّل بلاده إلى زنزانة مفتوحة، وأغرقها في عسكرة الحياة إلى الأبد.

يا للعار!

أيعقل أن يرى عثمان ميرغني في أحزاب الأمة، والتجمع الاتحادي، وحزب البعث، والمؤتمر السوداني، ضبابية في الرؤية، بينما يجد “الرشد والذكاء السياسي” عند أفورقي؟

هذا انقلابٌ في ميزان العقل، ومهانة في ميزان القيم.

 

حين يكتب صحفي، يفترض فيه أنه من أهل الوعي، مثل هذا الكلام:

 

(أشرت مراراً إلى هذا الخلل الكبير في فهم بعض الأحزاب الرئيسية لهذه القضية، حتى بات من الصعب تمييز ما إذا كان هذا الموقف ناتجاً عن قصور في الفهم أم عن تبني رؤية ترى في الجيش السوداني منافساً سياسياً يجب إزاحته واستبداله بقوة عسكرية أخرى)، فلن نرد على هذا الهراء، سوى بتأكيد ما يحاول نفيه:

نعم، يجب على كل سوداني حر، حزبيّاً كان أو مستقلاً، أن يرى في هذا الجيش منافساً سياسياً تجب إزاحته واستبداله.

 

إنه الانحياز الفج … من يرى الدمار بعين واحدة! وكأن جيش عثمان ميرغني بريء،(تأكل وتقشُّ في طرفه).

 

مقال عثمان ليس تحليلاً، بل بيانٌ حربيٌ مموَّه، يرى في الحرب طرفاً مذنباً واحداً، ويغض الطرف عن جرائم الطرف الآخر.

لا يرى في الخراب سوى “السلوك المنهجي للتخريب” من قبل قوات عدوئه الشقيق، بينما يتجاهل المجازر العرقية في كل البلاد، والغارات الجوية التي دمرت أحياء أم درمان، والمجاعة التي تفتك بسكان الخرطوم، والاغتصاب الممنهج في دارفور، وبيع المساعدات واحتكارها، وجرائم جهاز المخابرات العسكرية التي تفوق في وحشيتها كل وصف.

 

وإذا كانت الأحزاب – كما يزعم عثمان – ترفض الاصطفاف مع أحد طرفي الحرب، فذلك لأنها منحازة للسلام، لا للحرب، وللسودان، لا لـ”العساكر والمليشيات”.

تنطلق من وعي سياسي، لا من خيال صحفيٍ يرى الدنيا بعينٍ واحدةٍ في منتصف جبينه، كالدجال الذي يرى نصف الحقيقة، ويتعامى عن النصف الآخر.

 

إن مقالك – يا عثمان – ليس نقداً للأحزاب، بل تسويقٌ رخيصٌ للكوزنة في ثوب وعظٍ صحفي.

 

والمثير للغثيان أن الكاتب، وهو يتظاهر بالتعقل والرصانة، لا يجد غضاضة في تبني مصطلحات التمكين : “الجيش السوداني”، “الدفاع عن الدولة”، “انهيار مؤسسات الوطن”، تماماً كما كان إعلامهم الكيزاني يبرر الاستبداد بمزاعم الاستقرار.

 

إن عثمان لا ينتقد هذه الأحزاب لأنها تائهة، بل لأنها لا تصطف مع معسكر الكيزان، المعسكر الذي ظل يغازله في مقالاته، ويمهّد له طريق العودة “النظيفة” على ظهر الدبابة.

 

نختم فنقول : عثمان ميرغني، الذي تظاهر يومًا بأنه مع الثورة، يقف اليوم شاهداً زوراً على جريمة حرب.

يحاضر في الوطنية، بينما يمدح القتلة.

ينكر على الأحزاب استقلالها، بينما يروّج لتبعية مذلة للعسكر.

يتوهّم الحكمة، بينما يتكئ على منطق الطغاة.

 

إنه بحق، كاتبٌ يرى بعينٍ واحدة في رأسه، ويكتب بقلم مغموسٍ في مداد الخوف والطاعة.

ولا عجب أن اختار أفورقي مثلاً يُحتذى، بدلًا من أن يستلهم عبقرية الشعب السوداني، الذي لا يزال يصرّ على أن:

لا عودة للعسكر … ولا لأدعياء الصحافة الذين باعوا ضمائرهم في سوق الخنوع.

 

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..