مقالات وآراء

في ذكرى انقلاب 30 يونيو : تاريخ من الخديعة والخراب

عاطف عبد الله

 

في مثل هذا اليوم من عام 1989م، تسلل العسكر إلى الحكم عبر بوابة الخديعة السياسية، تحت ستار “الإنقاذ”، فاستيقظ السودان على أكبر كارثة وطنية في تاريخه الحديث. حين نُصِبَ الفخُّ تحت لافتة “اذهب إلى القصر رئيساً وسأذهب إلى السجن حبيساً”، بدأت مأساة وطن لم يفق بعد من آثارها. كان ذلك الانقلاب إيذاناً بعهد من الظلام، تكسرت فيه أحلام الشعوب، وارتفعت فيه أعمدة السجون بدل المدارس، ونُصبت المشانق مكان منصات العدالة.

 

هكذا أُجهضت آمال التحول المدني، وحلت محلها قبضة أمنية خانقة، دشنتها بيوت الأشباح، وباركها نظام شمولي قائم على الولاء العقائدي، لا على الكفاءة أو الوطنية.

 

ثلاثة عقود من الانقلاب صنعت دولة قائمة على القمع وتصفية الخصوم، تحالفت فيها جماعة الإسلام السياسي مع قوى الشر الإقليمي والدولي، فغدت البلاد مرتعاً للفساد الممنهج، والنهب العلني، وبيع مؤسسات الدولة تحت غطاء الخصخصة، وتجريف الخدمة المدنية، وتسليع القضاء، واستباحة موارد البلاد لصالح قلة منتفعة لا تشبع.

 

أسس ذلك النظام بنية موازية للدولة، لا تعترف بالقانون بل تختطفه. أنشأ المليشيات، وسلّح العشائر، وأضعف الجيش القومي، وفتح البلاد أمام التدخلات الأجنبية، حتى باتت الأرض والسماء والمياه مستباحة. يكفي عاراً أن تُخلق وظائف قمعية بمسميات صريحة مثل “مهنة مغتصب” ضمن أجهزة الأمن – جريمة لا نظير لها حتى في أحلك فترات الاستعمار.

 

ولما اندلعت ثورة ديسمبر المجيدة، وأطاحت بالبشير ورموزه، ظنّ كثيرون أن ساعة الخلاص قد أزفت. غير أن بقايا النظام، وبمساندة أطراف داخلية وخارجية، أعادوا ترتيب صفوفهم، وامتطوا ظهر “اللجنة الأمنية”، (حصان طروادة) ليفرغوا الشراكة الانتقالية من مضمونها، ثم انقضّوا عليها بانقلاب جديد في 25 أكتوبر، ليعيدوا ذات الكوابيس بوجوه جديدة وبطش أشد.

 

المأساة لم تكن فقط في الانقلاب ذاته، بل في البنية العميقة التي زرعها النظام على مدى ثلاثين عاماً، والتي قاومت كل محاولات الإصلاح بعد سقوطه، وواصلت تدمير ما تبقى من أمل في بناء دولة مدنية عادلة.

 

فلا سلام تحقق، ولا عدالة انتصرت، ولا اقتصاد تعافى، بل تفاقم الانقسام الأهلي، وامتدت الحروب، وانهارت مؤسسات الدولة، وتحولت الثورة من مشروع وطني جامع إلى صراع على السلطة وسط ركام الخراب.

 

لكن الشعب السوداني الذي انتفض في أكتوبر 1964م، وأبريل 1985م، وديسمبر 2018م، لا يزال حيّاً، نابضاً، وقادراً على استعادة زمام المبادرة. فالتاريخ يعلمنا أن الثورات قد تُجهض، لكنها لا تموت، وأن الشعوب وإن طال ليلها، لا تستسلم للجلاد مهما اشتد بطشه.

 

في ذكرى الثلاثين من يونيو، لا نُحيي مجرد لحظة سقوط، بل نُجدد الوعي بخطورة التراخي، ونُعيد التأكيد أن الحرية والسلام والعدالة لا تُمنح، بل تُنتزع، وأن واجبنا الأخلاقي والسياسي يفرض علينا ألا نسمح بتكرار المأساة.

 

المجد للشهداء.

ولا للحرب، نعم للسلام.

 

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..