مقالات وآراء

بين الحقيقة والتبسيط- نقد موجة الاحتفاء الساذج بـ«فراعنة السودان» ودعوة لوعي تاريخي أعمق

زهير عثمان حمد

 

بين حقيقة التاريخ ومزالق التبسيط : نقد الذين صدّقوا طرح القناة السويسرية عن «فراعنة السودان»

 

يحب كثيرون في السودان أن يرفعوا في وجه من ينكر العمق الحضاري النوبي – أو من يحاول فصله عن التاريخ الفرعوني – ذلك الفيديو الشهير من القناة السويسرية الناطقة بالفرنسية، حيث يتحدث عالم الآثار شارلي بونيه بحماسة عن كرمة، الدفوفة، ملوك النوبة، وعن حقيقة أنهم حكموا مصر حتى فلسطين.

 

وبينما لا ينكر عاقل أن هذه شهادة مهمة، بل وضرورية لكسر السرديات الاستعمارية التي حاولت طمس التاريخ النوبي، فإن المشكلة تبدأ حين يختزل البعض كل حجتهم في مقطع تلفزيوني، فيجعلونه وثيقة نهائية حاسمة، دون أن يسأل نفسه: ما الذي يجعل هذا الكلام صحيحًا حقًا؟ وهل ثمة مصادر أعمق وأكثر علمية؟ أم أن ترديد ما قاله الأوروبي أمام الكاميرا هو طريقتنا الوحيدة في إقناع العالم أو أنفسنا بتاريخنا؟

 

الحقيقة أن هذا السلوك – تحويل أي تقرير أجنبي إلى «إنجيل» – ليس سوى وجه آخر من وجوه الضعف الفكري الذي فرضه علينا الاستعمار ذاته، حين أقنعنا بأن تاريخنا لا يصبح مهمًا إلا إذا صدّقه أوروبي أمام الكاميرا.

 

لا ينبغي أن نقبل هذا.

علينا أن نكون أكثر جدية وعمقًا.

فالحضارة النوبية لا تحتاج إلى شهادة قناة سويسرية لتكون حقيقية.

 

بل إن الأدلة الأثرية والعلمية الدامغة موجودة ومتراكمة، وهي أهم بكثير من أي تقرير تلفزيوني عاطفي. هذه الأدلة هي التي يجب أن تكون أساس وعينا وحجتنا.

 

حقيقة الاكتشافات الأثرية التي أعادت كتابة التاريخ

مثلًا، لدينا مملكة كرمة (2500–1500 ق.م)، حيث كشفت الحفريات – خاصة دفوفة كرمة الغربية المكتشفة حديثًا – عن مبنى دائري ضخم بقطر 18 مترًا، سبق بناء الأهرامات المصرية في التطور المعماري والسياسي، مما يدل على دولة مركزية قديمة ومستقلة.

 

في جبل البركل بالسودان، كشفت مقابر الملوك الكوشيين عن نقوش تُظهر طقوس تتويج مصرية كاملة، مما يثبت أن الثقافة الفرعونية لم تنقطع جنوبًا، بل وجدت هناك عمقها ومصدر تجددها.

 

الأهم من كل ذلك «لوحة الملك كاشتا» المنقوشة في معبد الكرنك بمصر، حيث يعلن كاشتا – الملك النوبي – أنه ملك مصر العليا والسفلى في القرن الثامن قبل الميلاد، أي قبل العصر الذهبي للأسرة الخامسة والعشرين التي حكمت مصر رسميًا.

 

أدلة جينية ولغوية تقضي على وهم «الانعزال الفرعوني»

أما الذين لا يريدون رؤية هذه الوحدة التاريخية، فيحبون الادعاء بأن «مصر الفرعونية» كانت منعزلة تمامًا عن إفريقيا السوداء.

 

لكن الدراسات الجينية الحديثة، مثل تحليلات الحمض النووي لمومياوات الأقصر، أظهرت تشابهاً وراثياً واضحاً مع سكان النوبة القديمة في شمال السودان.

 

اللغة المروية – التي لم تُفكّ بعد بالكامل – تؤكد وجود نظام كتابي مستقل في مروي بالسودان، مرتبط بالعالم النيلي، لا تابعًا لمصر.

 

أما النقوش الهيروغليفية المصرية نفسها، فإنها تمتلئ بالإشارات إلى السودان، مثل «أرض تانتر»، بوصفها منبع الآلهة – خاصة الإله آمون – الذي كان مركز الطقوس الملكية في النوبة قبل مصر.

 

كيف صاغ الاستعمار هذا الفصل؟

هنا مكمن الخطورة الحقيقية – وهو ما لا يشرحه تقرير القناة السويسرية كثيرًا:

الفصل الأكاديمي بين «مصر الفرعونية» و«السودان النوبي» لم يأتِ من فراغ، بل كان مشروعًا استعماريًا مقصودًا.

 

المستشرقون في القرن التاسع عشر ابتكروا «نظرية الحزام الفرعوني»، لربط مصر بحضارات البحر المتوسط «البيضاء» وفصلها عن إفريقيا السوداء.

 

تجاهلوا مصادر قديمة مثل هيرودوت، الذي ذكر بوضوح أن عادات المصريين الدينية جاءت من إثيوبيا (السودان القديم)، وأن النوبيين كانوا أطول عمرًا وأكثر صحة.

 

في المتاحف الأوروبية، جرى تزييف تماثيل ملوك نوبة سود البشرة، بإعادة نحتها أو طليها بلون فاتح.

 

لماذا تستمر هذه السردية إلى اليوم؟

حتى الآن، تجد مؤسسات كبرى في الغرب تتحفظ بشدة على الاعتراف بهذه الحقيقة.

 

السبب الأول اقتصادي: مصر تجني من السياحة الفرعونية نحو 12 مليار دولار سنويًا، بينما مواقع السودان الأثرية شبه مهملة.

 

والسبب الثاني سياسي: النظام المصري الحالي يستخدم «النزعة الفرعونية» لتعزيز الهوية القومية وإقصاء الهوية الإفريقية.

 

والسبب الأكاديمي: مدارس الآثار التقليدية (مثل جامعة شيكاغو) لا تريد القبول بنتائج شارلي بونيه أو تيموثي كيندال لأنها تضعف احتكارهم لتأويل تراث وادي النيل.

 

السودان نفسه : ضحية المحو

الطريف – والمُحزن – أن السودان نفسه أحيانًا متواطئ في هذا التهميش.

 

الدولة السودانية لا تُدرّس هذا التاريخ كما يجب.

 

مشاريع مثل سد النهضة مهددة بإغراق مواقع نوبية كاملة، دون أن نسمع ضجة دولية كالتي صاحبت إنقاذ معبد أبو سمبل في مصر.

 

الحراك الشعبي مثل «نوبيون من أجل الحقوق» يطالب بإدراج هذا التراث في المناهج بلا جدوى حتى اليوم.

 

اقتباس علمي يُفحم دعاة الفصل

قال د. تيموثي كيندال – عالم الآثار الأمريكي الذي قضى 30 عامًا في التنقيب بجبل البركل:

 

«الفراعنة السود لم يكونوا استثناءً في التاريخ المصري، بل كانوا القاعدة. ما نسميه اليوم ‘مصر القديمة’ كان امتداداً لحضارة بدأت في قلب السودان.»

 

النقد الأهم : كفى ترديدًا ساذجًا

لهذا كله، من العيب أن يكتفي البعض في السودان اليوم بأن يلوحوا بمقطع القناة السويسرية وكأنه كل حجتهم، بل وكأنه شهادة ميلاد حضارتهم.

 

التاريخ النوبي ليس سلعة إعلامية.

الحضارة السودانية لا تحتاج ختمًا أوروبيًا كي تثبت.

الحقيقة الأثرية موجودة في الدفوفة، في البركل، في النقوش، في الجينات، في اللغة، وفي التراث الحي لشعوب النوبة.

 

إذا أردنا أن نرد على من فصل «الفرعونية» عن السودان، فلنرد بالأدلة العلمية الصلبة، لا بمقاطع اليوتيوب.

لنجعل من هذا الوعي سلاحًا تحرريًا حقيقيًا، لا مهرجانًا احتفاليًا فارغًا.

ولنطالب بتغيير المناهج، بإنقاذ المواقع الأثرية، وبفرض هذه الحقيقة على اليونسكو والعالم.

 

هذه ليست مجرد معركة في السردية التاريخية.

هذه معركة هوية.

معركة تاكيد معرفتنا للتاريخ قيمته الحضارية

ومعركة حق.

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..