مقالات وآراء

الهجرة النبوية من حدث تاريخي الي دعوة للاعتبار والتجديد

ظِلَال القمــــــر

عبدالرحمن محمـــد فضــل

 

تمثل الهجرة النبوية واحدة من أهم المحطات الفارقة في التاريخ الإسلامي، ليس فقط بوصفها انتقالاً جغرافياً من مكة إلى المدينة، بل كتحول جذري في مسار الدعوة الإسلامية، وانتقالها من السرّية والملاحقة إلى التمكين وبناء الدولة إنها لحظة مفصلية يجب ألا تُختزل في المظاهر الاحتفالية، بل أن تُستدعى إلى دائرة الدراسة والتأمل، لا سيما في ظل ما نعيشه من تحديات فكرية واجتماعية ودينية

اذا ماذا تعني الهجرة من ناحية المعنى والدلالة، فمن حيث اللغة، فالهجرة تعني الترك والانفصال، وغالباً ما تكون قسرية فالإنسان لا يترك وطنه إلا مُكرهاً، وهو ما يؤكده الموقف المؤثر للنبي صلى الله عليه وسلم حين غادر مكة التي أحبها قائلاً : “والله إنكِ لأحب بلاد الله إليّ، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت” وقد سبق ورقة بن نوفل هذا المشهد حين قال للنبي في بداية دعوته : “ليتني فيها جذع إذ يخرجك قومك”. الهجرة النبوية هجرة غيرت وجه التاريخ الهجرة كانت لحظة التحول نحو العالمية، لقد أعادت الهجرة رسم خارطة الدعوة الإسلامية، إذ تحولت من نطاقها المحلي الضيق إلى فضاء أوسع وأكثر تأثيراً، تمثل في المدينة المنورة (يثرب سابقاً) التي أصبحت حاضنة للمشروع الإسلامي الجديد، وهناك في تلك البقعة المباركة أسس النبي صلى الله عليه وسلم أول دولة إسلامية، وبنى قواعدها على أسس العدل والمساواة والشورى، ما جعل الهجرة رمزاً لبداية التمكين لا مجرد فرار من الاضطهاد، وقد اتخذ المسلمون هذا الحدث معياراً زمنياً لبداية تقويمهم الإسلامي، تماماً كما اعتمد النصاري ميلاد السيد المسيح عليه السلام بدايةً لتقويمهم، غير أن التقويم الهجري يعكس هوية روحية وواقعية مختلفة، تبدأ من لحظة التجرد لله ورسوله والانطلاق في سبيل نشر الرسالة، واذا تتبعنا الهجرة في سياق ومسيرة الصحابة والفقهاء فنجد الهجرة لم تكن فعلاً نبوياً فحسب، بل تبعها الصحابة الذين هاجروا إلى الحبشة ثم إلى المدينة، ونشروا الإسلام في بقاع الأرض هذه التجربة أثرت لاحقاً على فقهاء الأمة، كما يظهر في موقف الإمام مالك حين رفض إلزام الأمة بكتابه الموطأ، مفضلاً احترام تنوع اجتهادات الصحابة الذين تفرقوا في الأمصار، وهو ذات الموقف الذي نلمسه عند الإمام الشافعي، الذي غيّر مذهبه حين انتقل من العراق إلى مصر، مراعاةً لاختلاف البيئة والواقع لقد فهم الشافعي أن الدين لا ينفصل عن محيطه، وأن الاجتهاد يجب أن يواكب التغيرات، وهو درس بليغ نستحضره في كل زمان، انه درس للمتشددين والمتنطعين الذين لايرون غير منهجهم ومذهبهم او جماعتهم او حزبهم، يجب ان نتوقف عند هذا الحدث التاريخي الهام وننظر الي هذه الهجرة بين” العبادة والنية” الهجرة في بعدها الشرعي عبادة تتطلب نية خالصة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه.” هذا الحديث وضع الأساس الأخلاقي للهجرة، ومهد لفهم أوسع لمقاصدها، فهي ليست فقط انتقالاً مكانياً، بل حركة باتجاه الله، ونشر للخير، ودعوة إلى التغيير، وفي هذا الإطار، يدخل مفهوم السائحين في القرآن الكريم، الذين يسيرون في الأرض لنشر رسالة ربهم، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فهم كما جاء في الحديث ” عن اهل القران وفضل القران فهم” أهل الله وخاصته.” يجب التوقف عند هذه الهجرة العظيمة التي لامثيل لها فالهجرة في حد ذاتها هي دعوة للتأمل العميق لا الاحتفال الاجوف الفارغ من المضمون ورغم أهمية هذا الحدث الكبير الا انه يغيب رأس السنة الهجرية عن اهتمام كثير من” المسلمين” ، إما لانشغالهم بمعاشهم اليومي، أو بتأثير فتاوى بعض الجماعات السلفية التي ترفض إحياء هذه المناسبة باعتبارها “بدعة” غير أن هذا الموقف يتجاهل أن الذكرى ليست مدعاة للطرب أو المظاهر الاحتفالية فحسب، بل فرصة للتدارس والاعتبار والتفكر والتامل ما أحوج الأمة اليوم إلى تحويل هذه المناسبة إلى محطة معرفية يتم فيها تناول الهجرة من خلال الندوات والمؤتمرات والأبحاث الجادة، والوقوف على دلالاتها الروحية والتاريخية والسياسية، خاصة في ظل ما نعيشه من انقسامات وتحديات الهجرة النبوية ليست مجرد ذكرى، بل دعوة متجددة للهجرة من الجهل إلى العلم، ومن الجمود إلى الاجتهاد، ومن الفُرقة إلى الوحدة، ومن الظلم الي العدل ومن العنصرية والكراهية والبغضاء الي المساواة والرحمة والتعاضد والتماسك حتي يصبح جسد المجتمع مثل البنيان المرصوص ذكري الهجرة النبوية هي فرصة لاستعادة القيم التأسيسية التي قامت عليها الأمة، وتجديد الصلة بمعاني التضحية، والنية الصادقة، والعمل الجماعي

فما أحوجنا إلى أن نقرأ الهجرة بعين الناقد المحب.

 

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..