ثورة ديسمبر المجيدة : هل نجحت مساعي الكيزان في طمس معالمها؟

عماد خليفة
البلد في حالة حرب! هل الوقت مناسب للحديث عن الثورة؟ ثورة شنو (البتتكلم) عنها! (كدي) خلينا ننتهي من الجنجويد وبعدها نشوف حكاية الثورة! … وغيرها من الردود والعبارات المعلبة التي يمكن أن تسمعها عندما يُذكر اسم ثورة ديسمبر والتي لم تاتِ إلا لتجعل الحياة أفضل وتنهي حالة الاحتراب والاقتتال والعنف التي ظلت ملازمة للدولة السودانية منذ تأسيسها.
مرت الثورات العظمى التي غيرت مجرى التاريخ بمراحل طويلة من النضال والتضحيات تعلو وتهبط خلالها موجات الثورة وفقا لمتغيرات عديدة أهمها تأثيراً هو مدى قوة وتجذر قوى الثورة المضادة أو مايعرف ب (الدولة العميقة) في مفاصل الدولة وإمساكها (بتلابيب) الاقتصاد والسلاح والإعلام الذي يمثل رأس الرمح في تعطيل وكبح جماح قطار الثورة. من بين أبرز هذه الثورات العظيمة الثورة الفرنسية التي هزّت أركان النظام الملكي في أوروبا، وحركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة في خمسينات وستينات القرن الماضي التي أرست أسساً للنضال السلمي والمقاومة القانونية ضد الظلم، وأعادت تعريف مفهوم قيم المواطنة والمساواة في المجتمع الأمريكي. كلاهما مرّا بمراحل من الصعود والهبوط، والنجاحات والانتكاسات، وظل إرثهما حيّاً تستلهم منه الشعوب معاني النضال والتضحيات حتى اليوم.
أدى تراكم الغبن والظلم والفساد والإستبداد في السودان خلال حكم الإسلاميين لثلاثة عقود إلى أن تكون ثورة ديسمبر ٢٠١٩م مختلفة عن سابقاتها في أكتوبر ١٩٦٤م ومارس/ ابريل ١٩٨٥م، لأنها كانت ثورة تغيير شامل وحقيقي في بنية كل مؤسسات الدولة الفاشلة، وتمت بإجماع ومشاركة عدد كبير من السودانيين بالداخل والخارج، كما أنها تفوقت على سابقتيها بأن شرارتها الأولى انطلقت من الأطراف وامتدت للمدن وعمت القرى والفرقان وبمشاركة واسعة من كل الفئات العمرية والنقابات المهنية ومنظمات المجتمع المدني، ولا يُنسى الدور الرائد و المتعاظم للمرأة السودانية.
بدأت الثورة في عامها الأول بمحاولة (خلخلة) وتفكيك مفاصل الدولة القديمة وضرب ثوابت الامتيازات السياسية والاقتصادية المتوارثة لعقود طويلة تعود لما قبل تأسيس الدولة السودانية الحديثة والتي لم تستطع ثورتي ١٩٦٤م و ١٩٨٥م في اختراقها وبالتالي تفكيكها لصالح دولة المواطنة والقانون. المحاولات الجادة لاعادة مؤسسات الدولة للشعب جعلت مقاومة الثورة المضادة عنيفة ومتطرفة، بدأت بحملات إعلامية مضللة، أعقبتها خلق وافتعال أزمات معيشية طاحنة تخللتها تفلتات أمنية وقبلية عنيفة تم تجهيز وهندسة البيئة المناسبة لها خلال حكم الانقاذ الكؤود، ثم كانت مجزرة فض اعتصام القيادة العامة في ٣ يونيو ٢٠١٩م التي كانت البداية الحقيقية لإعلان الحرب على الثورة لاسيما وقد تمت أمام مقر قيادة الجيش وبتنسيق تام بين الوحدات العسكرية والأمنية والقضائية و (حدث ما حدث)، ثم تلى ذلك انقلاب عسكري كامل. وعندما لم تنجح كل هذه المحاولات في إيقاف عجلة الثورة اشعلوها حرباً كارثية قتلت عشرات الآلاف من السودانيين ودمرت معظم البنى التحتية للبلاد وخلقت حالة من النزوح والتشرد والمعاناة الإنسانية لم تشهدها البشرية في التاريخ الحديث.
ورغماً عن قتامة وتعقيد المشهد وحالة الإحباط الشديدة التي يمر بها السودانيون جراء هذه الكارثة، مازلت (كوة) الضوء مشتعلة في آخر النفق، تُبشر بنهوض بلادنا العزيزة من بين أكوام الحطام واكتمال ثورة ديسمبر التي وُلدت لتعيش وتبقى.
ولمن تختلج في ذهنه الأسئلة التي وردت في بداية هذا المقال، عليه إعمال العقل قليلاً بمحاولة بسيطة لتفكيك سردية هذه الحرب المدمرة والتدبر في هذه الأسئلة: من أجل ماذا قامت هذه الحرب؟ ومن المستفيد منها؟ ومن الذي أطلق الرصاصة الأولى؟ ولماذا الإصرار على استمرارها؟ ثم ربط ومضاهاة كل ما سبق مع: لماذا ثار الشعب السوداني ابتداءً، وضد من؟ ثم من الذي فضّ الاعتصام؟.