خطابٌ على المنبر، وأنينٌ تحت الركام

✍️ محمد هاشم محمد الحسن
في قاعات المؤتمرات الفاخرة، يتحدّث بُرهان عن التنمية، بينما الخرطوم تحترق تحت خطاه.
يحمل ملف السودان إلى الخارج بوصفه دولة تبحث عن التمويل والاستقرار، في الوقت الذي يُغلق فيه على الداخل أبواب الحياة بالكاد المفتوحة أصلًا. هذا ليس فقط تناقضًا سياسيًا، بل إساءة أخلاقية لتاريخ شعب يُذبح أمام أعين العالم، بينما يبتسم قاتله أمام الكاميرات.
لطالما استُخدم خطاب التنمية في التاريخ السوداني كغطاء لتحصين السلطة لا لإصلاحها. في عهد الإنقاذ، كما اليوم، كانت المؤتمرات الدولية واجهة ناعمة تُخفي عجز الداخل وتُزيّن الواجهة بورق الخطاب المُنمّق.
اليوم، يعود المشهد بذات العباءة القديمة، يظهر الفريق عبد الفتاح البرهان إلى جانب قادة العالم في مؤتمر رفيع المستوى حول تمويل التنمية العالمية، بينما بنية البلاد التحتية تتهاوى تحت وقع القصف والحصار، والمستشفيات تُغلق، والمدارس تُفرغ، والمواطنون يُهجّرون.
وما يجري لا يبدو سياسةً بمفهومها المدني، بل عرضًا مسرحيًا نصّه مكتوب سلفًا، أبطاله يرتدون أزياء الشرعية، والجمهور المستهدف ليس من احترقوا بالركام، بل من يجلسون في مقاعد كبار الزوار. تُضاء الخشبة بأضواء المؤتمرات، ويُرصّ الديكور من شعارات (الاستقرار والشراكة)، بينما يُسحب الميكروفون من خلف الكواليس حيث الأنين الحقيقي. يتكرّر العرض الرديء دون تعديل، وكأن ما ينقصه ليس العدالة، بل تحسين الإضاءة.
هذا النوع من الشراكة الدولية لا يُبنى على التكافؤ ولا على أولويات الناس، بل على شروط تمويل سياسي مشروط، تُعطى فيه اليد العليا للمانح ويُسحب القرار من المواطن. إنها شراكة تُصمّم لتُجمّل الواجهة، لا لتنتشل الواقع.
وما يزيد المشهد غرابة هو صمت المجتمع الدولي الأمم المتحدة، والمؤسسات المالية الكبرى، وحتى دول الديمقراطية الليبرالية التي تدين العنف شفهيًا، لكنها تتعامل واقعيًا مع مرتكبيه كـ(شركاء في التنمية).
يتحدّثون عن الحوكمة والشفافية، لكنهم لا يُثيرون سؤال من يقتل؟ من يُهجّر؟ ومن يحكم تحت وطأة السلاح؟
أما ازدواجية المعايير فتبلغ ذروتها حين تتحدّث بعض الدول عن الاستقرار في السودان، في الوقت الذي تُسكت فيه مواقفها عن الدعم العسكري واللوجستي الذي يمر عبر بعض دول الجوار. خطاباتهم مزدوجة، وتحالفاتهم متداخلة، بينما الدم المسفوك يُترك دون مساءلة.
ولو سُئلت امرأة في أحد مخيمات النزوح في دارفور عن رأيها في مؤتمرات التنمية، لربما أجابت (نحن لا نأكل المؤتمرات نريد فقط أن يتوقف القصف). تلك الكلمات تُلخّص الواقع أكثر من ألف تقرير دولي.
ما يحدث ليس أكثر من إعادة تدوير صورة متصدعة، لتلميع شرعية تآكلت منذ أن ارتفعت بنادق السلطة في وجه الشعب. تُستخدم المؤتمرات كمنصات لإعادة تسويق النظام، لا لمراجعة النفس أو الاعتراف بالجرائم.
لكن ما يفعله البرهان لا يمكن اختزاله في تصنيفٍ أدبيٍ واحد، بل يقترب كثيرًا مما يُعرف بـ(التراجيديا السياسية ذات الطابع العبثي) لأنه لا ينبع من سقوط بطل مأساوي، بل من غياب البطولة ذاتها وسقوط القيم. يجمع بين مفارقة كبرى وانفصال فادح بين الخطاب والممارسة، بين مشهد يتزيّن بشعارات التنمية، وواقع تُفتك فيه مقومات الحياة الأساسية.
ولأن من يدّعي الإنقاذ هو ذاته من يدير الهدم، يتحوّل المشهد إلى سخرية سوداء تُستخدم فيها الوعود كأدوات تخدير، والمؤتمرات كواجهة تُخفي عنفًا ممنهجًا. الدولة هنا لا تُمارس الحكم، بل تُقدّم أداءً مسرحيًا فاقدًا للمعنى، يُعرض على جمهور خارجي مأخوذ بالإضاءة، بينما الحُلم يُحاصر في قلب الوطن.
في ريف دارفور المحاصر، وفي بورتسودان المخنوقة، وفي مخيمات النزوح، لا يسمع الناس شعارات الشراكة الدولية، بل أنين الأطفال وبكاء الأمهات. وتلك الصرخة البكماء التي تصعد من تحت الركام، تُحاكم العالم بصمتها أكثر من ألف خطاب يُلقى على منبر دولي.
فالتنمية الحقيقية لا تُقاس بعدد المؤتمرات، ولا تتحقق بزيف التصفيق، بل تبدأ حين يُرفع الحصار عن الحياة، ويُعاد للناس حقهم في الكرامة والخبز والنجاة.
وإن كانت السلطة تبحث عن شرعية، فلتبدأ بالاعتراف بمسؤوليتها، لا بمدّ أيديها للكاميرات.
فكيف نتحدث عن التنمية، بينما لم نُجب بعد عن أبسط سؤال في تاريخ الشعوب ما بعد الجراح، أين العدالة؟
فلا تنمية بلا مساءلة، ولا مستقبل دون مواجهة الماضي. أن يُرفع صوت التنمية بينما يُخرس صوت العدالة الانتقالية، هو إنكار متجدد للجريمة، وتخلٍّ كامل عن معنى الدولة كحارس لكرامة أبنائها.
ولا عدالة تُنتظر ممن أهدرها، ولا مصالحة حقيقية دون أن يتقدّم من شوّه البلاد نحو عتبة الحقيقة، لا نحو منصة التجميل الدولي.
فأول شرط في طريق التنمية ليس القروض، بل الحقيقة.
فأي شرعية تُكتسب من الخارج، بينما تُفقد في كل شارع داخل الوطن؟
هذا سؤال لا يُوجَّه للسياسة وحدها، بل للضمير الإنساني بأكمله.
الابن محمد هاشم
ما ارفع النبوغ.
كلامك يبنى على تحليل ومعرفة. ليس هناك تعليق على مقالك فقد كفى.