مقالات وآراء

السلام في السودان … بين نداء العقل ومأساة الهوية

عاطف عبد الله

 

رغم الدماء التي سالت، والخراب الذي أتى على البلاد من أطرافها، لا تزال هناك نافذة – ضيقة لكنها حقيقية – لإحلال السلام في السودان. قد تبدو المعادلة مستحيلة للوهلة الأولى : جيش ومليشيات متحالفة تقاتل دعماً سريعاً طامحاً، وقوى مدنية منقسمة على ذاتها، فيما الشعب محاصر بالنزوح والجوع والخذلان. غير أن الإنهاك الشامل لجميع الأطراف، والضغط الدولي المتصاعد، والانكشاف الأخلاقي والسياسي للجميع، تهيئ لحظة فارقة تستحق اغتنامها.

 

في هذا السياق المظلم، تأتي رسالة الدكتور فرانسيس مادينق دينق، السفير ووزير الخارجية السابق، كنداء ضمير وصرخة إنسانية، تدعونا إلى التمعّن في جذور الأزمة، التي تتجاوز مجرد صراع على السلطة إلى أزمة أعمق تتعلق بتعريف الهوية الوطنية السودانية.

 

الحرب ليست فقط مواجهة بين جنرالات، ولا خلافاً سياسياً عابراً، بل هي في جوهرها تفجّر مأساوي لأزمة الذات الجمعية. فالسودانيون، منذ الاستقلال، لم يحسموا سؤال “من نحن؟”، وظلت الهويات الجزئية – العرقية، الدينية، الثقافية – تتغذى على غياب مشروع وطني جامع. يقول فرانسيس: “لا أحد يكسب من هذا الدمار”، وهي جملة تختزل حقيقة الحرب التي تعيد تصنيف المواطنين على أسس تسمح بإقصائهم وقتلهم دون ندم.

 

من هنا، فإن أي صيغة حقيقية للسلام يجب أن تتجاوز وقف إطلاق النار المؤقت إلى معالجة جذر الأزمة. وأي مقاربة لهذه الحرب بمعزل عن الحروب السابقة ستنتج فرضيات خاطئة تؤدي حتماً إلى نتائج أكثر خطأ، ويكون استبعاد أي فرصة للسلام ضرباً من العبث.

 

بعيداً عن البروباغندا السياسية والتفكير العاطفي، هناك حقيقة صارخة : لا أحد من أطراف الحرب يملك القدرة على حسم المعركة ميدانياً. وكل من يعتقد غير ذلك عليه أن يراجع حساباته. فكلما طال أمد القتال، زادت تكلفته على الجميع، وازدادت خسارة البلاد. ولذلك، فإن السلام لم يعد خياراً ناعماً، بل ضرورة وجودية.

 

الصيغة الممكنة : بين السياسة والأخلاق

 

الصيغة الأكثر واقعية تبدأ بوقف إطلاق نار دائم، بضمانات دولية، يشمل انسحاباً من المدن وفتح الممرات الإنسانية، ويتبعه ترتيبات أمنية انتقالية تدمج القوى المسلحة تدريجياً داخل جيش قومي موحد. يجب أن تُدار هذه العملية برقابة أممية صارمة، وبجداول زمنية تمنع إعادة إنتاج المليشيات داخل الجيش نفسه.

 

سياسياً، لا بد من تشكيل سلطة مدنية انتقالية مستقلة تُدار عبر حكومة كفاءات، تمنع مشاركة الأطراف المسلحة في الحكم خلال المرحلة الانتقالية. ويمكن لمجلس سيادي مدني-عسكري بصلاحيات رمزية أن يشكل حلاً وسطاً لتجاوز الحساسيات.

 

أما مسألة العدالة والمحاسبة، فهي معقدة بحكم توازنات القوى، لكن يمكن التوافق على مرحلة عدالة انتقالية تبدأ بجمع الأدلة وتأجيل المحاكمات، دون التخلي عن مبدأ عدم الإفلات من العقاب.

 

مواجهة أزمة الهوية : مفتاح الاستدامة

 

يشدد فرانسيس دينق على أن السلام لا يمكن أن يُبنى دون اعتراف متبادل بين كافة المكونات، ودون إدارة رشيدة للتنوع العرقي والديني والثقافي. وهذا لا يتحقق بصفقات نخب مغلقة، بل من خلال حوار وطني شامل وصادق، يعيد تعريف المواطنة على أساس المساواة والكرامة، ويوازن العلاقة بين الدين والدولة بما يضمن التعدد ولا ينفي الخصوصية وتحقيق حلم وطن يسع الجميع.

 

لعل أقوى ما في رسالة فرانسيس دينق ليس تحليله السياسي الدقيق فحسب، بل نبرته الإنسانية التي خاطبت السودانيين كأمهات وآباء وأبناء، لا كأطراف سياسية. فالحرب، في جوهرها، ليست مجرد خلل في موازين القوى، بل انهيار في إنسانيتنا الجماعية. أو كما قال دكتور فرانسيس : “لا أحد يكسب من هذا الدمار.” ولا أحد سيخرج منتصراً من حرب ضد نفسه.

 

الخاتمة : لا سلام بلا شجاعة إنسانية

 

إن السودان لا يحتاج إلى هدنة هشة، نخرج منها لنقع في حرب أو حروب ألعن منها. بل هو بحاجة إلى مشروع وطني جديد يعيد تعريف الدولة، ويضع حداً لدورات العنف والانقسام. فالحرب الجارية، بكل مآسيها، قد تكون الفرصة الأخيرة كي نعيد النظر في أنفسنا، ونتصالح مع تنوعنا، ونبني دولة للمستقبل لا للماضي.

 

السلام ليس مستحيلاً. لكنه يتطلب شجاعة سياسية وأخلاقية، تتجاوز الحسابات الصغيرة، وتعترف بأن الانتصار الحقيقي لا يكمن في كسب المعارك، بل في إنقاذ الإنسان السوداني من أن يتحوّل إلى عدو لنفسه.

 

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..