مقالات وآراء

‏الإعلام الموازي .. كيف قاومت المواقع الإلكترونية إمبراطورية الفساد؟

خالد ابواحمد

 

لم يكن الإعلام في عهد الحركة الاسلاموية في السودان مجرد أداة توجيه، بل كان جزءاً من بنيان السيطرة الشاملة على الوعي العام. ‏تحت سطوة هذا النظام، تم تدجين الصحف واحتكار البث، فأُفرِغت الكلمات من معانيها، وغُيّبت القضايا الكبرى خلف أناشيد التهليل ‏وخطب الطاعة. لكن رغم الضجيج الإعلامي المصنّع، ولد صوت آخر—متقطع في بدايته، لكنه سرعان ما تحول إلى جبهة مقاومة ‏رقمية‎: ‎المواقع الإلكترونية السودانية المستقلة‎.‎

منذ أواخر التسعينات وبداية الألفية، برزت مواقع مثل (سودانيزاونلاين) الذي أسسه الأستاذ المهندس بكري أبوبكر المقيم بالولايات ‏المتحدة في خلق منبر للمهجّرين والناشطين خارج حدود الرقابة، في البدء كانت ملتقى فكرياً نخبوياً، ثم تحولت تدريجياً إلى سجلٍ حيّ ‏للشهادات، والتسريبات، والتوثيق المضاد، حين انفجرت قضايا تمكين أعضاء الحركة داخل الخدمة المدنية، أو استيلائهم على أراضي ‏الدولة، كانت هذه المنصات تنشر الوثائق في وقت كان مجرد الإشارة إلى هذه التجاوزات في صحيفة ورقية يعرّض كاتبها للاعتقال أو ‏الفصل‎.‎

لاحقاً، ومع اشتداد قبضة النظام على الصحافة التقليدية، ظهرت (الراكوبة) التي أسسها الأستاذ وليد الحسين، و(حريات) التي أسسها ‏الزميل الاستاذ عبدالمنعم سليمان، كمنصتين صحفيتين بديلتين تتبنيان نهج الصحافة الاستقصائية، بعيداً عن بيروقراطية التواطؤ ‏الرسمي، لم تكتف هذه المواقع بنشر المعلومات، بل أعادت تعريف دور الإعلام نفسه: من ناقل للخبر إلى فاعل في إنتاج الحقيقة،‎ ‎عبرها ‏عرف السودانيون تفاصيل اختلاسات بالمليارات، وقضايا تمكين مذهلة، وأسماء قيادات راكمت الثروات تحت ستار الدعوة. كشفت ‏الراكوبة على سبيل المثال حجم الأموال التي تلقاها الرئيس المخلوع بوثائق رسمية من بنك السودان، وفضحت شبكات اقتصادية ‏مرتبطة مباشرة بالأجهزة الأمنية، كانت تعمل كدولة داخل الدولة‎.‎

وإلى جانب منصات مثل الراكوبة وحريات وسودانيزاونلاين، برز موقع (سودانايل) كمنبر فكري وتحليلي لعب دوراً محورياً في تفكيك ‏الخطاب الإسلاموي من الداخل، لم يكن (سودانايل) موقعاً استقصائياً بالمعنى التقليدي، بل شكّل مساحة للنقاش العميق والمراجعة ‏الفكرية، حيث نُشرت مقالات نقدية جريئة لكتّاب سودانيين من مختلف المشارب، تناولت بنية الحركة (الإسلامية)، وتحالفاتها، وأثرها ‏على الدولة والمجتمع. وقد تميّز الموقع بقدرته على استقطاب أصوات من داخل النظام نفسه، ممن انشقوا أو راجعوا مواقفهم، فساهم ‏في فضح التناقضات الداخلية للتنظيم، وكشف كيف تحوّل من مشروع دعوي إلى سلطة غنائمية‎.‎

‏(سودانايل) كذلك لم يكن فقط منصة لنشر المقالات، بل كان أرشيفاً فكرياً للمقاومة المدنية، يوثّق تحوّلات الوعي السوداني، ويمنح ‏القارئ أدوات لفهم تعقيدات المشهد السياسي بعيداً عن الشعارات. ومن خلال هذا الدور، ساهم في تعرية الخطاب الأخلاقي الزائف ‏الذي تبنّته الحركة الإسلامية، وفضح كيف تم توظيف الدين لتبرير الاستبداد والنهب‎.‎

هذه المنصات لم تكن محايدة ولا تزعم ذلك لقد انحازت بوعي إلى حق المجتمع في المعرفة، وإلى ضرورة تحطيم الصورة الزائفة التي ‏حاولت السلطة تسويقها لنفسها طوال عقود، إن القيمة الكبرى لهذه المواقع لا تكمن فقط في المعلومات التي بثّتها، بل في أنها كسرت ‏حاجز الصمت والرهبة، ودفعت المواطن من المتلقّي إلى المشارك، من الخوف إلى النقد، من التوجّس إلى المحاسبة‎.‎

أكثر من ذلك، ساهم هذا الإعلام في بناء ذاكرة جماعية للمقاومة‎ ‎، فبينما حرص النظام على دفن الفضائح كانت هذه المنصات توثّق ‏الشهادات: من القضاة الذين استقالوا احتجاجاً على التدخل السياسي، إلى النساء اللواتي طُردن من وظائفهن بسبب عدم انتمائهن للتنظيم ‏نشرت مقالات فككت سرديات الطهرانية السياسية، وسلطت الضوء على ضحايا القوانين الأخلاقية الزائفة، مثل قانون “الزي الفاضح” ‏الذي استُخدم كسلاح لكسر النساء في المجال العام.‏

كان نظام الحركة (الاسلاموية) ولا زال يجند المئات من الشباب للعمل تحت إدارة الأمن الالكتروني بجهاز المخابرات، واستطاع ان ‏يستقطب مجموعة كبيرة من خريجي تقنية المعلومات خاصة المقيمين بالمملكة العربية السعودية، ويستغل ظروف بعضهم الصعبة فكان ‏هؤلاء هم الذين يشكلوا الفريق الالكتروني الذي يعمل في الميديا السودانية المنتشرة على نطاق واسع وبامكانيات مادية وتقنية مهولة، ‏بهدف تزيف الحقائق ونشر الأكاذيب بل التصدي للوطنيين الشرفاء المؤثرين في المنتديات الالكترونية والفاعلين في وسائل التواصل ‏الاجتماعي، ورغم محاولات السلطة لاختراق المواقع الالكترونية أو حجبها، ظلت صامدة بفضل دعم المستخدمين وجرأة الصحفيين ‏المقيمين في الخارج، تحوّلت إلى أرشيف حي لمرحلة مليئة بالانتهاكات، وساهمت لاحقاً في دعم لجان إزالة التمكين بعد الثورة، إذ ‏شكّل أرشيفها مادة خاماً لتحقيق العدالة الانتقالية‎.‎

إن ما قدّمته هذه المنصات لم يكن مجرد إعلام بديل، بل مقاومة حقيقية للزيف، بصيغة رقمية، وربما لم تكن لتنجح لولا الشرخ الأخلاقي ‏العميق الذي أحدثه النظام داخل مؤسساته : ذلك الشرخ الذي جعل الكلمة الحُرّة حاجة وجودية، لا ترفاً نخبوياً. فحين يُفسد الحاكم الدين، ‏ويُستباح المال العام باسم الإصلاح، يصبح الإعلام الحر بمثابة واحة للأمان المعرفي، وسلاحاً لإعادة تعريف المعنى‎.‎

في المحصلة، فإن (الراكوبة) و(حريات) و(سودانيزاونلاين)، و(سودانايل) وغيرها الكثير، لم تكن منصات إعلام فقط، بل مساحات ‏لتحرير الوعي، ومصانع لإنتاج ذاكرة لا يريد الطغاة لها أن تُكتب، فتاريخ الحركة (الإسلامية) في السودان هو أيضاً تاريخ محاولتها ‏احتكار ‏‎”‎الحقيقة‎”‎، لكن كل منظومة تزوير تحتاج إلى جدار من التعتيم، حين انهار هذا الجدار على يد وسائل إعلام الناس لا السلطة، بدأ ‏يتكشف مدى تعفّن الباطن تحت الطلاء الديني، وبدأت لغة المحاسبة تتسلل إلى فضاءات لم تكن تحلم يوماً بالخلاص من شعارات ‏الطاعة‎.‎

في الخلاصة أقول أن هذه المواقع الالكترونية السودانية التي تحدثت عنها لم تكن منابر احتجاج فقط، بل سجّلت ذاكرة وطن، وخلقت ‏أرشيفاً للعدالة القادمة، واليوم وفي لحظة ما بعد السقوط، فإن أرشيف الراكوبة وحريات وسودانيزاونلاين وسودانايل يُعدّ من أندر ‏أشكال المقاومة الهادئة التي قاومت السلطة بأداتها الأشد رعباً: الكلمة‎.‎

ومن هنا التحية والتجلة لكل الزملاء الأعزاء الذين بذلوا الجهد والفكر والمال والوقت من أجل ابراز الحقيقة ومحاربة الزيف والخداع.‏

[email protected]

تعليق واحد

  1. وينك ابا أحمد طولت الغيبة
    مقالك جميل ومهم جدا وهو توثيق لمراحل مهمة عبارة عن تذكير للناس وتعريف للشباب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..