مقالات وآراء سياسية

المواصلات في السُّودان: تاريخ خدمات السكك الحديدية والملاحة البحرية والنهرية في جمهورية السودان

أ. د. أحمد إبراهيم أبو شوك

تأليف رتشارد هل (Richard Hill)

ترجمة بدر الدين حامد الهاشمي

الناشر دار المصورات: النشر والطباعة والتوزيع (2025)

عرض وتحليل أحمد إبراهيم أبوشوك

يُعدُّ الدُّكتور بدر الدِّين حامد الهاشميِّ من أبرز المثقَّفين السُّودانيِّين، الَّذين كرَّسوا حياتهم لخدمة المعرفة والتَّاريخ السُّودانيِّ، وذلك من خلال مشروعه الرَّائد في التَّرجمة، الَّذي أطلقه قبل أكثر من عقدين من الزمان، وجعل منه جهدًا علميًّا متواصلاً؛ لرفد المكتبة السُّودانيَّة والعربيَّة بمصادر ثريَّة ومتنوِّعة. وانبثقت فكرة المشروع من قناعته بوجود فجوة في الوعي المعرفيِّ بتاريخ السُّودان، الَّذي كتبه الرَّحَّالة، والمؤرِّخون، والإداريُّون الأجانب. وسدًّا لهذه الفجوة ترجم الهاشميُّ العديد من المقالات والدِّراسات والرِّوايات الأجنبيَّة، وجمعها في سلسلة “السُّودان بعيون غربيَّة”، الَّتي بلغ كمُّها خمسة عشر مجلَّدًا. وإلى جانب ذلك ترجم عددًا من الكتب المرجعيَّة، آخرها كتاب البروفيسور ريتشارد هل (1901-1996) عن “المواصلات في السُّودان: تاريخ خدمات السِّكك الحديديَّة والملاحة البحريَّة والنَّهريَّة في جمهوريَّة السُّودان”، الَّذي صدرت طبعته الإنجليزيَّة الأولى عن مطبعة جامعة أكسفورد عام 1965، وطبعته العربيَّة عن دار المصوَّرات للنَّشر والطِّباعة والتَّوزيع عام 2025. وقدَّم الترجمة العربيَّة الدُّكتور الحاجُّ سالم مصطفى، والأستاذ مصطفى أحمد فضل، والأستاذ محمود عبده محمود. وبعد قراءة التَّرجمة العربيَّة والتَّقديمات المقرظة لها، لم أجد لنفسي موطئ قلمٍ للتقريظ؛ ولذلك آثرتُ الاكتفاء بالسُّؤال التَّقليديِّ: ما أهمِّيَّة كتاب المواصلات في السُّودان، الَّذي مضى ستُّون عامًا من تاريخ نشر نسخته الإنجليزيَّة؟ تكمن أهمِّيَّة كتاب المواصلات في الخصائص الآتية:

أوَّلاً: يتناول هذا الكتاب النَّادر تاريخ تطوُّر وسائل المواصلات والنَّقل في السُّودان، بمنظوماتها الثَّلاث: السِّكك الحديديَّة، والنَّقل النَّهريُّ، والملاحة البحريّة، منذ بداية الحكم التُّركيِّ-المصريِّ (1821-1885) وحتَّى منتصف القرن العشرين. ويتطرَّق الكتاب إلى الموانئ والمحطَّات الرَّئيسة، وأسماء كبار موظَّفي السِّكك الحديدية، والمصطلحات المتداولة بين العاملين فيها وجذورها اللُّغويَّة، وكيف أصبحت جزءًا من الثَّقافة العامَّة السُّودانيَّة. والكتَّاب بهذا الثَّراء المعرفيِّ لم يكن مرجعًا فريدًا في بابه فحسب، بل وثيقةً نادرةً تحكي عن التَّطوُّر التِّقنيِّ والإداريِّ الَّذي شهدته مؤسَّسة السِّكك الحديدية، كما يوضِّح كيف أسهمت هذه المؤسَّسة في بناء الوعي القوميِّ السُّودانيِّ، وفي وصل أطراف البلاد الشَّاسعة، سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وثقافيًا.

ثانيًا: أُسس الكتاب على مخرجات خبرة عمليَّة واسعة للمؤلف، ووثائق أرشيفيَّة، وشهادات مباشرة من موظَّفين سودانيِّين وبريطانيِّين، ممَّا أكسبه نوعًا من المصداقيَّة العالية، وجعله مادَّةً أوليَّةً ثريَّةً للباحثين المهتمِّين بتطوُّر المواصلات في السُّودان.

ثالثًا: يلقي الكتاب إضاءات ساطعةً على “ثقافة السِّكَّة حديد” وتأثيرها في المجتمع السُّودانيِّ، من حيث الانضباط بمواعيد العمل ومرجعيَّاته الدِّيوانيَّة، والاهتمام بقضايا الوحدة الوطنيَّة، وتطوير الشُّعور الوطنيِّ الناظم لوحدة البلاد في إطار تنوعها العرقي والثقافي والديني. ولذلك كان مجتمع السِّكة حديد مجتمعًا نموذجيًا، يجب الاقتداء بتجاربه الناجحة في زماننا الرَّاهن؛ لأنَّ حرب الخامس عشر من أبريل 2023 قد نخرت في عظام النَّسيج المجتمعي، وروَّجت لتنامي روح الكراهية والنزعة العنصريَّة التي أضحت ديدن قطاع واسع من أبناء وبنات السُّودان.

رابعًا: قد أفلح الهاشميُّ في تعزيز النَّصُّ الأصل بهوامش وملاحظات توضيحيَّة مفيدة، كما أضفى على التَّرجمة بُعدًا وجدانيًّا مهمًا، وذلك من واقع تجربته في حيِّ السِّكَّة حديد بالخرطوم، والذي يقول عنه: “كان لتعلُّقي بحيِّ السِّكَّة حديد بالخرطوم منذ أن جيء بي من قريتنا “أمِّ علي”، وعمريّ لا يتجاوز بضعة أشهر، لمسكن العائلة (منزل رقم 265)، الَّذي يواجه ورشة السِّكَّة حديد، ولا يبعد عن سورها إلَّا بأمتار قليلة، والَّذي لم نغادره إلَّا قبيل دخولي للجامعة، أكبر الأثر في شغفي بسكك حديد السُّودان، ورغبتي الملحَّة في ترجمة ما سطَّره الغربيُّون عنها وعن تاريخها.”

خامسًا: شكَّلت الوظائف التي شغلها رتشارد هل في بمؤسَّسة السِّكَّك الحديدية (1929-1942) بُعدًا مصدريًّا مهمًّا، أهلَّه للقيام بدور الباحث المشارك والملاحظ المعايش والجامع لأدبيَّات السِّكَّك الحديدية في صدور العاملين الحافظين لتراثها وأرشيفها الدِّيوانيِّ الزَّاخر بالمعلومات، فضلاً عن تأهيله الأكاديميِّ، حيث حصل على بكالوريوس التَّاريخ في جامعة أكسفورد، ومارس العمل الأكاديميُّ بكلِّيَّة الخرطوم الجامعيَّة (1944-1949)، وجامعة درم (1949-1966(؛ ولذلك يمثِّل كتاب “المواصلات في السُّودان” مصدراً معرفيًا أصيلًا، استقى المؤلف معلوماته من دواوين السِّكَّك الحديدية والعاملين فيها، وعجم عيدانه بمناهج أكاديميَّة تدريب عليها تدريسًا وتأليفًا؛ ولذلك خرجت سرديَّةً الكتاب سرديَّةً متكاملةً من حيث المحتوى والعرض. وتصلح لأن تكون أساسًا لإعادة بناء المواصلات في السُّودان بمنظوماتها الثَّلاث: السِّكك الحديديَّة والنَّقل النَّهريَّ والملاحة البحريَّة؛ لأنَّ الَّذين ورثوا تركة المستعمر بدلاً من يطوِّروها حسب احتياجات بلد “المليون ميل مربَّع” عبثوا بأصولها وخرَّبوا وسائلها النَّاقلة.

سادسًا: لا أودُّ في هذا العرض إعادة إنتاج النُّبذة التَّعريفيَّة الضَّافيَّة الَّتي كتبها الدُّكتور الحاجُّ سالم مصطفى عن رتشارد هل في تقديمه لكتاب المواصلات؛ لكن لا بدَّ من إلقاء النَّظر على ثلاث إسهامات قدَّمها إلى السُّودان. أوَّلها، معجم سير الشخصيَّات العامة في السُّودان الإنجليزيِّ-المصريَّ (A biographical Dictionary of the Anglo-Egyptian Sudan)، الَّذي صدرت طبعته الأولى عن مطابع جامعة أكسفورد عام 1951، والَّذي وصفه البروفيسور يوسف فضل حسن بأنَّه من “أهمَّ” معاجم الإعلام في السُّودان، و”أكثرها” أثرًا.

وثانيها، النِّداء الَّذي أطلقه رتشارد هل عامّ 1957 لجمع الوثائق الموجودة في خزائن بعض الإداريِّين، والمبشِّرين، والجنود، ورجال الأعمال، والأطبَّاء، والاختصاصيِّين الزِّراعيِّين، والمعلِّمين، الَّذين عملوا في السُّودان، وحفظها بمكتبة جامعة درم (Durham) بالمملكة المتَّحدة. ويحتوي أرشيف السُّودان بجامعة درم اليوم على قدر كبير من وثائق المهديَّة، وأرشيف المخابرات المصريَّة، وجريدة السُّودان الرَّسميَّة (الغازيَّتة)، وأعدادًا كبيرةً من الوثائق المتعلِّقة بمصر وشبَّه الجزيرة العربيَّة وفلسطين وشرق الأردنِّ وسوريا والدُّول الإفريقيَّة المتاخمة للسُّودان وجنوب السُّودان. فوق هذا ذاك الأوراق الرَّسميَّة والشَّخصيَّة (مثل المراسلات والتَّقارير والمذكِّرات وأدبيَّات الرِّحلات واليوميَّات والرَّسائل الشَّخصيَّة)، وكذلك الصُّور الفوتوغرافيَّة، والأفلام السِّينمائيَّة، والتَّسجيلات الصَّوتيَّة، والخرائط، والموادُّ المتحفيَّة الَّتي أهداها أصحابها إلى جامعة درم. وبذلك أضحى جامعة درم من أكبر مراكز حفظ الوثائق السُّودانيَّة بالخارج. طالب نفرٌ من الباحثين بعودة هذا الأرشيف النادر إلى السُّودان؛ لكنَّهم بعد حرب الخامس عشر من أبريل 2023، أضحوا يسدون الحمد إلى رتشارد هل وإلى جامعة درم، الَّتي حفظت هذا التراث الوثائقي بطريقة أفضل من أصحاب الشَّأن، الَّذين دمَّروا كمًّا مقدِّرًا من المُودع منه في السُّودان على المستويين الرسمي والشعبي دون وعي بأهمية قيمته العلمية والمعرفية بناء الهوية السُّودانيَّة.

ثالثها، كتابه: “فيلق مختار من السُّود: كتيبة من المجنَّدين السُّودانيِّين المصريِّين مع الجيش الفرنسيِّ في المكسيك (1863-1867)، والنَّاجون منها في تاريخ أفريقيا اللَّاحق، (A Black Corps d’Elite: An Egyptian Sudanese Conscript Battalion with the French Army in Mexico, 1863-1867, and its Survivors in Subsequent African History)، الذي صدرت طبعته الأولى قبل عام من وفاة رتشارد هل (1995). وتمثَّل هذه الكتيبة، الَّتي بلغ عدد ضبَّاطها وجنودها 446، عاد منهم نحو 321 إلى السُّودان، نمطًا من أنماط التَّجنيد القسريِّ والاسترقاق التي كانت تُمارس آنذاك؛ لكن بعض السودانيين ينظر إليها من زاوية أنها تعكس بسالة الجندي السوداني وصلابته في حروب المكسيك؛ ويصف فريق ثالث العائدين من أفرادها إلى السودان بضعف الحسِّ الوطنيِّ؛ لأن الحكومة التُّركيَّة-المصريَّة قد وظفتهم في حروبها ضدَّ الثَّورة المهديَّة. لكن بغض النظر من مواقف السودانية المتباينة من هذه الكتيبة، فإن النماذج الثلاثة التي أشرنا إليها تعكس طرفًا في إبداعات رتشارد هل، الَّتي وثَّق لها البروفيسور يوسف فضل حسن في مقالٍ جيد الصنعة، بعنوان: “رتشارد هل: مؤرِّخ العهد التُّركيِّ المصريِّ في السُّودان.”

وأخيرًا، التَّهنئة الصَّادقة إلى البروفيسور بدر الدِّين حامد الهاشميِّ على ترجمة هذا السَّفر العظيم في موضوعه (المواصلات في السودان)، والَّذي يشكِّل إضافة نوعيَّة إلى مشروع السُّودان بعيون غربية، الَّذي أبرز البروفيسور أحمد الصَّافي معالمه في بحثٍ بعنوان: “مشروع بدر الدِّين حامد الهاشميِّ في التَّرجمة”، موضحًا أنَّ المشروع قد كشف عورات المؤسَّسات البحثيَّة والأكاديميَّة السُّودانيَّة، الَّتي لم تسطع أن تصدر قائمة ببليوغرافيةً كاملةً عن الأدبيات التي كُتبت عن السودان بلغات أجنبيَّة؛ ومن طرف آخر أبان الصافي أنَّ تَّرجمات الهاشمي جديرةً بالاحتفاء والتَّقدير، و”تحتاج لدعم ومساندة وترويج وتمويل ليس ذلك فحسب، بل يمكن للهاشميِّ أن يدير دفَّته (أي المشروع) باقتدار إذا أتيحت له الفرصة، وإذا صمتت أصوات المدافع. فبهذه التَّرجمات أعطى الهاشميُّ مثالاً عمليًّا بأنَّ هناك مشاريع هي من صميم مهامِّ الدَّولة بحكم طبيعتها وحجمها وإمكاناتها، مشاريع يمكن أن يبادر بها الأفراد ويتفوَّقون فيها، بل قد تصبح مهامُّ كبيرة ومفخرة لهم ولغيرهم. لكنَّ لتكوُّن هذه المشاريع ذات نفع عامّ وحاوية وشاملة ومستمرَّة، تظلّ أكبر من جهود الأفراد مهما أوتوا من مقدَّرات وموارد” (الصَّافي). وعليه نأمل تعي الحكومة السُّودانية قيمة مشروع الهاشميِّ، وتستأنس بما كتبه الصَّافي من مقترحات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..