مقالات وآراء

السودان تحت المقص: من يحكم ومن يُقص..؟

عبدالحفيظ الإمام قسوم

في بلدٍ يئنّ تحت وطأة البنادق والطموحات المتشابكة، يعيش السودان اليوم أخطر مراحله منذ سقوط نظام البشير. لم يعد السؤال: من يحكم السودان؟ بل كيف يُحكم هذا البلد وسط دولةٍ تآكل فيها مركز القرار، وتوزعت السلطة بين جنرالات وحركات مسلحة وتحالفات إقليمية تبحث عن موطئ قدم في بلدٍ مفتوح على كل احتمالات الانهيار وإعادة التركيب.

 أظافر تُقَلَّم… ومخالب تُعاد شحذها

لطالما وقفت التيارات الإسلامية وراء إفشال أغلب محاولات التفاوض السابقة، حين امتلكت القدرة على تعطيل أي تسوية لا تُبقي لها موطئ قدم في السلطة أو مفاصل الدولة. ومع تصاعد الضغوط الإقليمية والدولية لتفكيك شبكات الإسلاميين، تلوح فرصة لقصّ هذه الأظافر التي ظلت لعقود تمسك بخيوط اللعبة من وراء الستار.

لكن الواقع أكثر تعقيدًا: إذ بينما يُعاد تحييد الإسلاميين، ظهرت قوى أخرى مستفيدة من استمرار الفوضى، أبرزها بعض الحركات المسلحة التي تحوّلت من هامش سياسي إلى لاعب رئيسي يملك السلاح والموارد. يدرك المجتمع الدولي أن ترك هذه القوى دون ضوابط يعني إنتاج أزمة جديدة بمسمّى مختلف،ويعلم المجتمع الدولي ان هناك جهات تعمل علي اغراق الواقع بمليشيات مختلفة ومتنوعة للحفاظ علي سلطتها وإعاقة جهود وقف الحرب، لذلك يتجه – بالتوازي مع تحييد الإسلاميين – إلى كبح جماح الحركات عبر تجفيف مواردها وضبط حضورها داخل أجهزة الدولة.

️ دولة منهكة… وسلطة متعددة الرؤوس

منذ ثورة ديسمبر 2018، دخل السودان نفقًا انتقاليًا طويلًا زادت عتمته بعد انقلاب 25 أكتوبر واندلاع الحرب الأخيرة. وفي قلب هذا المشهد، أعادت الحركات المسلحة تقديم نفسها كلاعبٍ من الهامش إلى قلب الخرطوم عبر اتفاق جوبا للسلام، لكنها لم تكتفِ بديكور المشاركة، بل أرادت نصيبًا أصيلًا في السلطة والثروة – وربما وريثًا لمركز القرار في ظل فراغ الشرعية.

في المقابل، عمل الفريق أول عبد الفتاح البرهان ومنظومته على تحويل هذه الاتفاقات من فرصة لبناء سلام حقيقي إلى وسيلة لإعادة إنتاج النظام القديم بواجهات جديدة، مستخدمًا بعض الفصائل المسلحة كغطاء سياسي وأمني ضد خصومه من القوى المدنية وحتى من بعض العسكر.

صراع الثروة: من باطن الأرض إلى موائد التفاوض

لم يعد الصراع حكرًا على مقاعد الوزارات أو كراسي الحكم الرمزية. انتقل إلى باطن الأرض وظلال النيل وحدود الذهب والمناجم والتجارة العابرة. الحركات التي دخلت الخرطوم بشعارات «العدالة الاقتصادية» وجدت نفسها في مواجهة أجهزة دولة عميقة تحتفظ بقبضتها على مفاصل الثروة، لتصبح المواجهة حول من يسيطر على الذهب وشركات التعدين وطرق التهريب.

أما الجيش بقيادة البرهان، فيرى أي محاولة لتسلل الحركات إلى موارد الدولة تهديدًا مباشرًا لتركيبة النفوذ التي احتكرها المركز لعقود. وهكذا تحوّل السلاح من أداة لحماية الأرض والناس إلى أداة لحماية الامتيازات، في معادلة مكشوفة: «من يملك السلاح، يملك الثروة، ويشارك في السلطة».

عقوبات وأصابع خارجية

في خضم هذا كله، ارتفعت مؤخرًا أصوات بعض قيادات الحركات المسلحة مطالبةً بالإسراع في تشكيل حكومة انتقالية، واتهمت الفريق كباشي بالوقوف خلف تأخيرها بهدف سحب أوراق القوة منها وإعادة هندستها ضمن معادلة محسوبة. هذه المخاوف ليست معزولة: فقد نشهد قريبًا صدور عقوبات دولية ضد شخصيات عسكرية وقادة مليشيات — مثل قائد كتائب البراون وقائد قوات درع السودان — في رسالة واضحة بأن المجتمع الدولي لم يعد يقبل بوجود قوى مسلحة خارج السيطرة تبتز الدولة أو تخلق واقعًا ميدانيًا موازيًا.

️ صناعة ظهرٌ جديد للجيش… خشية انكشاف ظهره

وسط هذا التشابك، تتحرك مصر وبعض العواصم الإقليمية لصناعة تحالفات سياسية بديلة، تعوّض الفراغ الذي قد يتركه تحييد الإسلاميين وترويض الحركات، لتبقى المؤسسة العسكرية في قلب المعادلة من دون أن تدخل أي تفاوض مقبل «مكشوفة الظهر». هذا التحالف يجري هندسته بإعادة توزيع أوراق تحالف صمود، وإضافة أطراف جديدة تضمن غطاءً مدنيًا يحمي الجيش ويقايض المجتمع الدولي في ملفات الأمن والحدود.

 تفكيك الدولة أم اقتسامها؟

خطورة هذا الصراع أنه تجاوز سؤال «كيف يُحكم السودان؟» ليصبح «من يملك مفاتيح الثروة والقرار؟». فبينما تتمسك الحركات المسلحة بفكرة إعادة توزيع المركز لصالح الهامش، يسعى بقايا الدولة العميقة لإحياء مركزية تحكمها الولاءات لا الاستحقاقات.

هكذا يقف السودان اليوم أمام مفترق حقيقي: تقليم الأظافر وإعادة توزيع الأدوار، أم تفكيك الدولة إلى مساحات نفوذ مسلّحة يحكمها السلاح والثروة، بغطاء تحالفات موسمية تتبدّل بتبدّل الرعاة والوسطاء؟

 الخاتمة: من يكتب التاريخ؟

إن ما يجري في السودان ليس صراع حكومة ومعارضة ولا مجرد تسوية انتقالية، بل معركة بقاء بين مركز نفوذٍ يريد مواصلة احتكار القوة لحماية مصالحه، وهامشٍ ينتفض لاسترداد حقوقه وشراكته في الثروة والسلطة. اليوم الحاجة الحقيقية هي إلى مشروع وطني جامع – ينقل السلاح من الأيدي المتعددة إلى مؤسسات دولة جديدة موحده واسعة الطيف، ويفتح الثروة للجميع لا لفصائل بعينها – فهذا المشروع وحده يمكن أن يكسر هذه الحلقة المفرغة.

وما لم يدرك السودانيون أن خلاصهم لن يأتي من البنادق ولا من صفقات الخارج، بل من إرادة الداخل وشرعية الناس، فستظل البنادق وحدها تكتب التاريخ… وتقلم الأظافر وتعيد إنباتها كلما شاء اللاعبون.

إدراك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..