مقالات وآراء

البروفيسور مهدي أمين التوم: لماذا اعتزل الكتابة؟

 

 أ.د. أحمد إبراهيم أبوشوك

(1) ذكرتُ إلى أحد أصدقاء الدِّراسة بجامعة الخرطوم أنَّ البروفيسور مهدي أمين التُّوم قد اعتزل الكتابة في الصُّحف السَّيَّارة ووسائط التَّواصل الاجتماعيَّة الإلكترونيَّة، وآثر الصَّمت بعيدًا عن غلبة السِّياسة السُّودانيَّة وضوضائها؛ لكنَّ مثل هذا الصَّمت يدلُّ على أنَّه قد بذل النُّصح بمنعرج اللَّوِّى لإصلاح حال السُّودان فلم يجد آذانًا صاغيةً من الفاعلين السِّياسيِّين، الَّذين أورثوا السُّودان الخراب والدَّمار، ويصعب أن يكونوا جزءًا من الحلِّ. فباغتني الصَّديق بسؤال عفويّ، خارج النَّصِّ: “هل الدُّكتور مهدي أمين التُّوم مؤرِّخًا؟”، وكان مصدر استغرابي أنَّ السَّائل الَّذي نال بكالوريوس الآداب في جامعة الخرطوم لا يعرف أنَّ البروفيسور مهدي أمين التُّوم هو أستاذ الجغرافيَّة الَّذي يشار إليه بالبنان في مجال الدِّراسات المناخيَّة.

فرجعت إلى “موسوعة القبائل والأنساب في السُّودان وأشهر أسماء الأعلام والأماكن”، لمؤلِّفها البروفيسور عون الشَّريف قاسم، علىَّ أجد نبذةً تعريفيَّةً وافيةً عن الأستاذ المعلِّم؛ لأنَّ وجودها يعني أنَّ مأثورةً “الخرطوم تقرأ” لا تنطبق على الأجيال المعاصرة من أبناء السُّودان. لكن للأسف التَّعريف المبذول في الموسوعة كان أقلَّ من توقُّعاتي؛ لأنَّه أكتفى بتعريف المترجم له بأنَّه قد: “تخرج من جامعة الخرطوم، ونال الماجستير والدُّكتوراه من بريطانيا، عمل بقسم الجغرافيا جامعة الخرطوم، وأصبح مديرًا لجامعة أمِّ درمان الإسلاميَّة، وهاجر للخليج.” لكنَّ مهدي أوفى الكيل في مقال بعنوان “وداعًا جامعة الخرطوم: كلمات مني للذِّكرى في حقِّ حقبة كانت عامرةً.” وأبان فيه بأنَّه كان أوَّل اثنين من مدرسة المؤتمر الثَّانويَّة بأمِّ درمان قُبِلاَ بجامعة الخرطوم عامّ 1960، بعد منافسة شرسة مع زملائهما من طلبة وادي سيِّدنا وحنتوب وخورطقت، الَّذين حصدوا مقاعد السَّنة الأولى في كلِّيَّات جامعة الخرطوم. وبعد انتقال زميله من مدرسة المؤتمر، فتح العليم محمَّد خالد، إلى معهد الكلِّيَّات التِّكنولوجيَّة ليشبع رغبته في التَّخصُّص في الدِّراسات الهندسيَّة، أصبح مهدي وحيد السَّنة الأولى من أبناء المؤتمر في كلِّيَّة الآداب جامعة الخرطوم؛ إلَّا أنَّ وحشة زملاء مدرسة المؤتمر كانت أحد أسباب انفتاحه على “الآخرين بدل الانغلاق على المعارف السَّابقين.

” وبعد أن حصل على بكالوريوس الآداب (مرتبة الشَّرف) في الجغرافيا عام 1965، وصلته دعوة من إدارة الجامعة للانضمام إلى عضويَّة هيئة تدريسها، ثمَّ بعثته الجامعة إلى جامعة درهام لنيل الماجستير في الجغرافيا (1966)، ثمَّ إلى جامعة شفيليد لنيل درجة دكتوراه الفلسفة في الجغرافيا (1971) وبعد نيله شهادتي الماجستير والدُّكتوراه عاد مهدي إلى العمل بقسم الجغرافيا، كلِّيَّة الآداب، جامعة الخرطوم. وفي هذا المقام يصف جامعة الخرطوم بقوله: “هذه الجامعة العظيمة. . . رضعنا من ثديها، وبقينا طوال الأربعين سنة الماضية نحاول ردُّ بعض ديونها علينا ببذل أقصى ما نستطيع من جهد؛ تدريبًا لأبنائنا الطُّلَّاب، ومساهمة علميَّة متواضعة في مجالات التَّخصُّص، ومحاولات مستمرَّة للإصلاح والتَّطوير، وبناء دؤوب لأسس الانطلاق نحو آفاق أرحب، ودرءً لكلِّ سهام التَّخريب الَّتي ظلَّت الأنظمة الشُّموليَّة- الَّتي ابتلي بها السُّودان- توجُّهها نحو جامعة الخرطوم وكأنَّها عدوّ لدود. ولولا عظمة رجال الجامعة ونسائها وقوَّة مدافعتهم لأصبحت جامعة الخرطوم هباءً منثورًا تحت ضربات نظام الإنقاذ الحاليِّ، الَّذي بدأ عهده بوصف جامعة الخرطوم بأنَّها (صنم لا بدَّ من تحطيمه)، ولكنَّهم بقوا كناطح صخرةً يومًا ليوهنها.” ثمَّ يودِّع الجامعة بقوله: “وأنا إذ أودع جامعة الخرطوم وظيفيًّا من شروق شمس الأوَّل من يوليو [2006]، سأبقى مرتبطًا بها وجدانيًّا وروحيًّا ما بقيت حيًّا وخاليًا- إن شاء اللَّه- من آفة الخرف والنِّسيان، وأترك للأجيال الَّتي تعاقبت على مدرَّجات الجامعة الحكم لنا أو علينا. فلقد بذلنا ما نستطيع تحت ظروف بالغةً التَّعقيد.”

(2) أرسل البروفيسور مهدي قائمة المقالات والكتب الَّتي نشرها باللُّغة العربيَّة، والبالغ عددها 120 منشورًا، الأسبوع الأخير من شهر يونيو 2025، ولسان حاله يقول أقرُّوا مقالاتي وكتبي هذه علَّكم تستبينون النُّصح قبل ضحَّى الغد. ومن المقالات الَّتي استرعت انتباهي وأعِدتُ قراءتها “أحلام ما قبل الرَّحيل الأبديِّ”، الَّذي وجدت فيه شهادة صادقة ومؤثِّرة على سيرة وطن عاش تحوُّلات كبرى منذ لحظة استقلاله وحتَّى بلوغه مفترق الطُّرق الَّذي يرزح فيه اليوم. والنَّصُّ يختزل وجع جيل بأكمله، كان يحلم بدولة العدالة والنَّهضة، ليصحو على واقع الانهيار والتَّراجع، ويكتب وصيَّته الفكريَّة قبل أن يرحل.

ويتميَّز هذا المقال بأربع خصائص أساسيَّة: الصِّدق، والشُّمول، والرُّؤية الإصلاحيَّة، والجرأة في النَّقد. وفي مستهلِّ مقاله أعاد البروفيسور مهدي صورة يوم الاستقلال ورفع العلم، حين بدأ المستقبل مشرقًا، لكن الواقع بعد تسعة وستين عامًا صار أكثر بؤسًا وإحباطًا، وقد تبدَّدت مساحة البلاد وتآكلت قيم العدل والمواطنة وتردَّت الخدمات.

ويعزِّي المؤلِّف هذا البؤس والإحباط إلى توالي الأنظمة الشُّموليَّة، وتعاقب الدِّيمقراطيَّات الهشَّة، واختطاف الحياة السِّياسيَّة بيد الطَّائفيَّة والجهويَّة، وغياب المؤسَّسيَّة الَّتي تحمي الدَّولة من عبث الأفراد والأحزاب.

واحتلَّ التَّعليم الحيِّز الأكبر في قائمة أحلامه المؤجَّلة، فتأسف على انهيار التَّعليم العامِّ والجامعيِّ، واصفًا “ثورة التَّعليم العالي” بالطَّامَّة الكبرى الَّتي أفرغت الجامعات من قيمتها الأكاديميَّة. كما يدعو لإحياء ثلاثيَّة التَّعليم العامِّ (ابتدائي – متوسِّط – ثانويّ)، واستعادة فلسفة بخت الرِّضا الَّتي خرجت أجيالاً تفخر بها البلاد.

ولإصلاح التَّعليم العالي يدعو إلى تقليص أعداد الجامعات إلى سبع جامعات قوميَّة قويَّة، يكون لها استقلاليَّة ماليَّة وإداريَّة، كما يدعو إلى منع القبول الخاصِّ والمجاملات السِّياسيَّة، وإلغاء وزارة التَّعليم العالي وإنشاء مجلس مستقلّ، وإنهاء تجارة الدِّبلومات وسوء استخدام الاعتماد الأكاديميِّ.

ومن زاوية أخرى يربط البروفيسور مهدي تراجع الأداء الحكوميِّ بانهيار الخدمة المدنيَّة، ولذلك يدعو صراحةً إلى إعادة مركزيَّة الحكم، وتقليص الولايات إلى خمسة أقاليم كبرى، والعودة لمفهوم وكلاء الوزارات الدَّائمين، وإعادة تأسيس دولة الرِّعاية الاجتماعيَّة الَّتي تضمن التَّعليم والصِّحَّة المجَّانيَّين. وينتقد- بصراحة- هيمنة الطَّائفيَّة، ويعتبرها عبوديَّةً فكريَّةً لا تليق بعصرنا، ويدعو لقيام نظام حزبيّ رصين يكون التَّنافس فيه على أساس البرامج وليس الولاءات. كما يشدِّد على ضرورة المصالحة الواقعيَّة مع المجتمع الدَّوليِّ دون افتعال خصومات عبثيَّة، ويصف الدِّيمقراطيَّة اللِّيبراليَّة بأنَّها “أمُّ أحلام جيلنا” رغم تعثُّرها ثلاث مرَّات.

وتكمن قيمة هذا المقال من كونه نصًّا مركَّبًا يجمع بين الاعتراف بالفشل الجماعيّ، ونقد الذَّات والآخرين بلا مواربة، والتَّمسُّك بالأمل رغم خريف العمر، والإصرار على إبلاغ الرِّسالة للأجيال القادمة. حقًّا إنَّ هذا المقال وثيقة جديرة بالقراءة والتَّدبُّر؛ لأنَّه يلخِّص ما عاشه جيل الاستقلال من حلم وصحوة، ومن بناء وانهيار، في سرديَّة إنسانيَّة نبيلة، تخاطب الأمل في عقول الأجيال الصَّاعدة، مجسَّدةً ذلك في عبارة موجعة: “ولك اللَّه يا وطنيّ، والمجد لشبابك وأجيالك الصَّاعدة.” وعلى الرَّغم من مرارة التَّجربة فإنَّ شمعة عناد الأمل لم تنطفئ في مقال عنوانه “أحلام ما قبل الرَّحيل الأبديِّ”، ولعلَّ الأمل المنصوب في متونه يؤهِّل الأجيال الصَّاعدة لبناء جسور أمل على أنهار يأس أغرقت طموحاتها الواعدة. زادك اللَّه أستاذي الفاضل بسطة في الصِّحَّة والعلم.

مداميك

تعليق واحد

  1. السيد بروف٠احمد ابرهيم ابوشوك السلام عليكم ا
    انا المهندس المعماري صلاح الدين احمد التاي تخرجت في جامعة الخرطوم عام ١٩٧٨ وتعرفت علي بروفسير مهدي امين التوم في ثمانينات القرن الماضي عندما التحقت بكلية الآداب قسم الجغرافيا انذاك للتحضير لشهادة الماجستير في علم المناخ وارتباطة بالعمارة وكان البروف هو المشرف الرئيس للرسالة ومعة د محمد الهادي ابو سن رحمه الله ود عباس شاشا موسى رحمة الله وكانت فترة مميزة تعرفت فيها بالبروف عن قرب لمدة عامين وجدت فية العالم الموسوعة كما وجدت فية ادب وتواضع العلماء واستفدت منه كثيرا في إعداد الرساله وكنت من المتابعين باستمرار لكتابتة في الميادين المختلفة الشأن العام والعلمي وكنا سعيدين بهذا التمازج في البحث العلمي بين الهندسة والجغرافيا وخصوصا علم المناخ تحية إجلال لهذا الرجل العلامه والرحمة ل د ابوسن ود عباس شاشا وتحية لك ومتع الله البروف بالصحة والعافية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..