من أجهض التنمية يعتلي منابرها: البرهان ومهزلة مؤتمر إشبيلية

عادل إبراهيم مصطفى
سفير السودان السابق في تركيا
في مشهد يجسّد التناقض الصارخ بين المبادئ المُعلنة والممارسة الواقعية، شارك الجنرال عبد الفتاح البرهان، قائد انقلاب 21 أكتوبر 2021 في السودان، في المؤتمر الدولي الرابع لتمويل التنمية، الذي انعقد بمدينة إشبيلية الإسبانية خلال الفترة من 30 يونيو إلى 3 يوليو 2025، بتنظيم من الأمم المتحدة بالتعاون مع الحكومة الإسبانية. وقد خُصص المؤتمر لبحث إصلاح نظام التمويل العالمي وتعزيز الشراكات من أجل تحقيق التنمية المستدامة، لاسيما في البلدان التي تواجه أزمات اقتصادية وهيكلية.
لكن ما الذي يجعل قائدًا انقلابيًا، يتحمّل مسؤولية إشعال حرب أهلية دمّرت بلاده، شريكًا في حوار دولي حول التنمية المستدامة؟ الرجل الذي قاد انقلابًا عسكريًا ضد حكومة مدنية منتخبة، قاطعًا الطريق على التحول الديمقراطي، ومسهمًا بشكل مباشر في إشعال أزمة سياسية أدّت إلى الحرب الكارثية التي يشهدها السودان، لم يكن، بأيّ مقياس، رمزًا للتنمية ولا نموذجًا للحكم الرشيد.
ورغم كل ذلك، وبدعوة رسمية من الأمين العام للأمم المتحدة ورئيس الحكومة الإسبانية، مُنح البرهان تذكرة عبور إلى أحد أبرز المنابر الدولية لمناقشة تمويل التنمية! دعوة تكشف عن خلل بنيوي في المعايير الأخلاقية التي تستند إليها المنظومة الأممية، وتُظهر عجزًا فادحًا في التوفيق بين المبادئ والقيم المُعلنة والاعتبارات السياسية التي تحكم الواقع الدولي، خصوصًا حين يتعلق الأمر بدول الجنوب العالمي التي تعاني من ويلات الاستبداد والانقلابات.
الانقلاب الذي قاده البرهان لم يكن مجرّد انقلاب سياسي، بل شكّل نكسة تنموية كاملة. فقد أطاح بالحكومة المدنية الانتقالية بقيادة الدكتور عبدالله حمدوك، وهي الحكومة التي نجحت، خلال فترة وجيزة، في إعادة السودان إلى الخارطة الاقتصادية الدولية، عبر التوصل إلى اتفاق مع المؤسسات المالية الدولية أسفر عن خفض ديون السودان إلى أكثر من النصف، وبدء إجراءات الإعفاء التدريجي للديون ضمن مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون (هيبيك)، واستعادة ثقة المانحين وفتح الباب أمام المعونات والقروض التنموية والاستثمارات الدولية.
لكن كل هذه المكاسب التنموية جرى تقويضها بالكامل عقب انقلاب البرهان، ليعاد فرض العقوبات، وتُجمّد برامج الدعم، ويعود السودان إلى مربع العزلة، والفقر، والجوع، والحرب الأهلية.
ورغم هذا السجل الكارثي، حضر البرهان إلى مؤتمر التنمية متحدثًا عن “الشراكات والتمويل”، في خطاب يُجسّد المفارقة العظمى بين القول والفعل. (كبر مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون). إن لم يكن هذا تهكّمًا على المعايير الدولية، فهو بالتأكيد مهزلة أخلاقية وسياسية.
قد يسعى البعض إلى تبرير هذه المشاركة بمنطق “الواقعية السياسية” أو ضرورة “الانفتاح على جميع الأطراف،” لكن هذه الذرائع تنهار أمام الحقائق القاسية التي يعيشها السودان اليوم. فكيف يُناقَش مستقبل التنمية في حضور من دمّر مرتكزاتها؟ بل كيف يُكافأ من أجهض التحول الديمقراطي وأفقر شعبه، بمنبر دولي مرموق؟
إن مشاركة البرهان في هذا المؤتمر توجّه رسالة في غاية الخطورة مفادها أن الانقلابات لا تمنعك من الجلوس على طاولة الأمم المتحدة، بل قد تفتح لك الأبواب. وهي رسالة تُقوّض ثقة الشعوب المستضعفة في العدالة الدولية، وتُضعف الخطاب الأممي حول الحوكمة الرشيدة، وحقوق الإنسان، والتنمية المستدامة.
ما جرى في إشبيلية لم يكن مجرّد دعوة بروتوكولية، بل كان إخفاقًا أمميًا فادحًا في احترام الذات والمبادئ. وإذا كانت الأمم المتحدة جادة في مساعيها لتحقيق تنمية عادلة وشاملة، فعليها أن تبدأ بتكريم ضحايا الاستبداد لا الجناة، وأن ترفض شرعنة الانقلابات عبر منصاتها، بدلًا من فتح أبوابها لهم.
العرب