ثقافة وآداب، وفنون

غادة السمان… رحلة عقد من الحكي والذاكرة

 

نجم الدراجي
منذ عقد من الزمن بدأت رحلة الأعماق في «القدس العربي»، مع سيدة اللامعقول والتمرد والتسكع والجنون واللامبالاة، صاحبة الأعماق المحتلة، وجنية المباهج، والسمكة التي حاكمها البحر، والقتيلة التي استجوبتها القبيلة الأدبية.. يسكنها جنون الكتابة.. محترفة الرقص مع طائرها الأسطوري (البوم).. وتجتمع في منزلها الباريسي خمسمئة بومة.. كلماتها أجنحة حرية وأحلام وكوابيس، ولحظاتها صمت وتوق وغربة ومخاوف في اعتقال لحظة هاربة.. «زين الخيال» هكذا اختارت أن يكون اسمها في رواية «فسيفساء دمشقية»..تحمل غادة السمان في كتاباتها تواصلا دائما مع الذكريات، حيث ينبعث دفء الكلام وسط غربة المكان. تسرد بحس عميق قصصا تستكشف فيها جوانب الغموض والخيال، وتنقل القارئ في رحلات بين الواقع والخيال، حيث يتحول الجسد إلى مسافر يحمل شوق الأجنحة، وتبدأ الرحلة من بريق في العين يحمل دلالة القدر.
بدأ مشوار القراءة والتفاعل مع سلسلة مقالات غادة السمان في عمودها الأسبوعي الجميل (لحظة حرية)، وقد حمل العنوان نفسه لعمودها الأسبوعي في مجلة «الحوادث» اللبنانية التي توقفت عن الصدور.. نشر أول مقال لها في «القدس العربي»، تحديداً في 2/1/2015 تحت عنوان (يا للهول! ابنتي ستتزوج مسلما)، ولكن سبق لها أن نشرت مقالا استثنائيا في هذه الصحيفة بخمسة أشهر في رحيل الأديبة الصحافية فاطمة السردوك.. أحيانا تصنف عناوين مقالاتها كما الفصول الأربعة.. قراءات الشتاء والربيع والصيف والخريف، وربما قصدت بذلك مطالعتها للكتب الأدبية في ظل أجواء فصول السنة.. فلسطين هاجسها الإنساني الأول، وقد عبرت عنه في تلك المقالات.. وبيروت قلبها النابض، ودمشق مسقط رأس قلبها، ولبغداد نصيب من ذكرياتها، وباريس إحدى محطات الغربة.
ظل القلم يطاوع كلماتها، وتناسلت مقالاتها قرابة خمسمئة مقالة على مدار عشرة أعوام تلك (التبويمات) كما يحلو لها تسميها هي استمرارية لأبجدية كتبها الخمسين، ونهر تدفق بإبداعها.. ففي كل مقالة ذكرى لكتاب وإشراقة لفكرة جديدة، وإضاءة على شخصية استحقت تقديمها أبجدياً.تشكلت حول غادة السمان هالة من القراء التفوا حول مقالاتها، وتفاعلوا مع أفكارها الجريئة والصادقة.. وشيدت لهم جسرا أبجديا، ومنحتهم لحظة لقاء معها سمتها (لقاء مع القراء) كان القراء يترقبون تلك اللحظة بلهفة وشوق، وما تحمل من دهشة وإعجاب وشغف.. وتذكر أسماء قرائها وألقابهم وعباراتهم وتصوراتهم وتناقشها معهم، وتكتب عناوين بلدانهم، سواء في الوطن العربي أو المهجر، وتحترم خصوصية الأسماء والألقاب المستعارة، وتبوح لقرائها عن لحظة وفاء (ما من بهجة توازي الانحياز إلى برعم يتحول في ما بعد إلى حديقة جميلة للعطاء، والانحياز إلى القراء لحظة وفاء)..
مقالها الأسبوعي كان يصدر في وقت متأخر من الليل، وأغلب القراء مدمني مطالعة المقال المنشود، متلهفين لما هو جديد.. وقد ينطبق عليهم وصف (قارئ آخر الليل)، أحيانا كثيرة يصدق حدس القارئ لما يتمناه في المقالة.. وتدور الأسئلة في مخيلة القارئ.. ما الذي أعدته السيدة النبيلة في هذه الليلة الاستثنائية من أسبوع الانتظار؟ الأغلب تمنى حالة البوح بالذكريات الجميلة والعميقة عن دمشق واللاذقية وبيروت وبغداد والقاهرة وعدن وصنعاء وسواها من المدن.. وتمنيات أخرى بالكتابة عن كتبها الخمسين.
غادة السمان سيدة الثراء الأدبي غمرت القارئ بسيل من جماليات التعبير الإنساني.. تهمس لقارئها: أنت قريب مني أينما كنت، وكيفما كنت.. وتواصل الهمس العميق.. لك أهمس كل سنة وأنت قارئي.ومن أمنياتها للقراء: (كنت أتمنى ألا أخط سطوراً كئيبة لقراء آخر الليل، ولكن، من يعلمني كيف أكف عن نبش أحزاني وأحزان القراء في هذا الليل العربي الطويل؟). تعبر عن دهشتها بذاكرة القارئ العربي، وإعجابها بالمعلومات التي يمتلكها، وكل من تابع تلك الرحلة لمس واكتشف حالة الوعي العميق بين الكاتبة والقراء، وتعلقهم بما أوحت لهم عباراتها الساحرة.. وظل منبرها هادئا، وبعيدا عن العواصف.
تدافع الكاتبة عن حقها في الكتابة في الصحافة الأسبوعية، وتذكر ذلك في أحد مقالاتها المنشورة في صحيفة «القدس العربي»: (الكتابة في الصحافة أعطت الكثير لرواياتي ولم تأخذ منها.. وعمودي الأسبوعي ليس سباحة في بركة التماسيح، التي تقرض العطاء الأدبي، بل هي الرافد الثري لشريان رواياتي.. وللدورة الدموية لكتاباتي الشعرية والنقدية والحوارية وسواها). لم ترض أن تكون عبدة للأحداث اليومية والسياسية، ولم تقترب من السياسة، ولم تمدح الحكام.غادة عاشقة بيروت.. التصقت بكوابيسها، ونبوءتها برحيل بحر بيروت حين ارتدت شخصية العرابة (خاتون)، وصفت بأنها امرأة من كلمات، وهذا صحيح، واختارت لنفسها أن تكون امرأة مسافرة على قوس قزح، قالت أنا ولدت نورسا، لكنه بلا أجنحة، وقضيت عمري وأنا أنسج أجنحة لنفسي أطير بها بعيداً. محترفة في وصف الأماكن اللامنسية وعشقها وانتمائها لمدن الحضارة.. هذه دمشق تتجلى في رسائل الحنين إلى الياسمين (في دمشق ساحة، في الساحة بيت، للبيت شرفة، للشرفة صبية تروح جيئة وذهاباً طوال الليل. في يدها خريطة العالم. في عينيها مرصد للطائرات الذاهبة والآتية التي كانت تتمنى لو ترحل بها سائحة كونية إلى كوكبنا وكواكب أخرى – إذا أمكن! رحلت الصبية.. رقصت الدبكة طويلاً في مواكب الدهشة. وضعت قدماً في القطب وقدماً في خط الاستواء. ركضت وعربات الزمن تركض فوقها جيئة وذهاباً ألف عام. ولكن، لا تزال تلك الصبية في الساحة ذاتها، في البيت ذاته، في الشرفة ذاتها. منذ أكثر من ربع قرن، لم يتبدل شيء، لكن خريطة الدنيا اشتعلت بين يديها وتحوّلت إلى رماد على الشرفة).تتذكر مدينة اللاذقية حيث الساحل السوري الجميل المدينة التي أنجبت والدتها الأديبة سلمى رويحه: (اللاذقية جميلة.. بحرها غنج وبيدرها ترف وشفقها نزف خمر عناقيده طيب وسكر.. واللاذقية وديعة وطيبة ومعطاء كعروس خجلي ما عرف البحر استسلاماً لوشوشاته أرق وأحلى من استسلامها وخفرها.. فهو يداعبها بنشوة أول شراع عانق نسمة.. ثم يهدأ لحظة عندما تتعانق قرب أفقه نظرات متلهفة، جاءت ترقب لحظة الغروب وتنزلق الشمس إلى أحضان البحر، فتتفتح في زرقة دامية شهية، كأنها وردة غجرية وحشية الحمرة، ما عرفت أحلى من أعراسها في بحر اللاذقية وتفتحها المثير في الموج الدافئ الدافئ…).تشعر بالتبغدد حين تلتقي بغداد وتنهمر ذكرياتها كالمطر.. كم أحبت حالة التبغدد: (لن أنسى يوماً صباحي الأول حين زرت بغداد، وأسمع الآن صوت عامل الهاتف في فندق بغداد، وأنا أطلب منه فنجان قهوة، ويقول لي عبارة جميلة سمعتها للمرة الأولى هي «تتدَلّلي».. ويومها «تبغددت» كما كانت جدتي تتهمني وسعدت بأنني تبغددت).أضاءت قناديل الوهج على شخوص احتلت أبعاداً عميقة في حياتها.. غسان كنفاني ورسائله التي سالت فوق حدودها عواصف من النقد، والشاعر الكبير نزار قباني أمير الياسمين وزوجته النخلة العراقية بلقيس الراوي، وبشير الداعوق زوجها ورفيق رحلتها الشخصية والفكرية، والفنانة الكبيرة فيروز وسواهم.قبل ألف عام استعرت عبارة من كلماتك عن الحب، احتفظت بها في أعماق قلبي مع ذكرياتي البعيدة. اليوم أُهديك إياها مجددا، فحبك لا يمحوه النسيان. كنا معك، وسنظل نتابع خطواتك عن كثب عندما تكتبين، ننتظر صدور كتابك الجديد الذي عرفنا اسمه قبل أن يرى النور («الصور الثرثارة»). نزداد شوقا لقراءة مذكراتك كما وعدت قراءك.
كاتب عراقي

القدس العربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..