المقالات والآراء

السودان بلا صوت حين يُدار المصير من الخارج

✍️ محمد هاشم محمد الحسن

في لحظةٍ تتقاطع فيها الحسابات الإقليمية والدولية على جراح شعبٍ مُنهك، تُعلن واشنطن عن مؤتمر مرتقب حول السودان، بدعوة منها وبمشاركة الرياض، أبوظبي، والقاهرة، دون أي ضمان لتمثيل سوداني مباشر. المؤتمر، الذي يُخطَّط باسم السودانيين دون حضورهم، يُجسد الصورة الأوضح لفقداننا للسيادة، ويكشف أن السودان لم يعد يُنظر إليه كوطنٍ يعيش المحنة، بل كساحةٍ تُدار لصالح توازنات إقليمية تتصارع فوق أنقاضه. ليس جديدًا أن يُقرر مصير شعبٍ غائب، ولكن أن يتم ذلك عبر زعماء دولٍ تُزكّي أطراف النزاع وتمنحهم الشرعية، فذلك يُعادل إعادة صياغة الخراب، لا السعي لنهايته.

المبعوث الأمريكي، مسعد بولس، الذي صرّح بأن الحرب (ليست بالوكالة)، وأن الحل العسكري ليس مطروحًا، وأن التواصل قائم مع طرفي الصراع بشكل مباشر وغير مباشر، قدّم نموذجًا حيًا للتناقض بين الخطاب الإنساني والسلوك السياسي. هذه التصريحات، في ظاهرها، تبدو مدفوعة بالقلق الأخلاقي، لكنها في جوهرها تُكرّس معادلة إدارة الحرب لا السعي لإنهائها. إذ أن التواصل مع طرفي النزاع دون إشراك القوى المدنية الثورية يُفرغ المشهد من شرعيته الأخلاقية، ويُعيد إنتاج سياسات دولية فشلت سابقًا في سوريا، ليبيا، واليمن، حين أصبحت طاولات الحل معزولة عن الضمير والشارع.

هذا التحرّك الأمريكي لا يأتي بمعزل عن صراع النفوذ الدولي في السودان، بل يُفهم أيضًا كمحاولة لتقليص الحضور الروسي المتزايد، لا سيما مع تقارير حول اتفاقيات لإنشاء قاعدة بحرية في البحر الأحمر، واستبداله بنفوذ أمريكي أكثر إحكامًا. كما تسعى واشنطن إلى الحد من التمدد الصيني في البنية التحتية والاتصالات، الذي تم تاريخيًا عبر قنوات رسمية، لكنه اليوم يُدار في ظل غياب مؤسسات الدولة وتعدد مراكز السلطة، ما يجعل الحديث عن الدولة السودانية أقرب إلى المجاز السياسي منه إلى الواقع الإداري.

غياب الإرادة السياسية من طرفي الصراع، وبالأخص من الجيش الذي رفض كل المبادرات التفاوضية، لم يكن مجرد تعنت لحظي، بل كان مسارًا سياسيًا مقصودًا أدخل البلاد في دوامة لا تملك مفاتيح الخروج منها. لقد تصرّف قادة الحرب كما لو أن الدم وسيلة لتحقيق المكاسب، وليس نداءً للنجاة. ونتيجة لهذا السلوك، لم تعد مفاتيح وقف الحرب في الداخل، بل باتت تُسكّ في عواصم إقليمية لا ترى في السودان إلا موقعًا استراتيجيًا، لا وطنًا مستحقًا للسلام.

ووسط هذا الخراب، انشغل الداخل بمغانم السلطة بدلًا من البحث عن خلاص جماعي. توزّعت القوى السياسية الداعمة للجيش على موائد المناصب، بينما اتجهت قوات الدعم السريع إلى تشكيل تحالف (تأسيس)، في محاولة لإعادة إنتاج نفسها كفاعل مدني، عبر حكومة موازية وهيئة قيادية، رغم سجلها العسكري والانتهاكات الواسعة التي ارتكبتها. وفي المقابل، ظل تحالف (صمود) ينادي بوقف الحرب، ويطرح رؤية متكاملة للسلام، لكن دون أذن صاغية من الأطراف المتحاربة أو من القوى الدولية التي تفضّل التعامل مع من يملك السلاح لا من يملك الحق. وفي ظل هذا التنازع، راحت القوى الإقليمية تُعيد رسم خريطة النفوذ في غياب كامل للسودانيين، وكأن الوطن ملكية متنازع عليها لا قضية شعبٍ يستحق السلام.

الأسوأ من ذلك أن المجتمع نفسه بات منقسمًا بحدة، مسكونًا بخطاب الكراهية، متخلّيًا عن أي سردية جامعة. لم يعد الخطاب العام يحتمل الاختلاف، وتحول التنوع السياسي إلى حالة إقصاء، وصار قبول الآخر استثناءً لا قاعدة، مما أدّى إلى حالة من التفسخ الوطني تُبرر في نظر الخارج غياب الثقة في الذات السودانية، وتدعم منطق أن التدخل ضرورة، لا انتهاك.

أما المجتمع الدولي، فيُواصل تناقضه المتأصل في معايير السلام. فهو يتحدث عن دعم الحلول المدنية، بينما يفاوض على طاولته العسكريين والميليشيات، ويُقصي القوى التي قادت الثورة. منبر جدة، على سبيل المثال، جمع طرفي النزاع دون وجود تمثيل للقوى المدنية الثورية، في تكرار لنمط دولي شائع منذ سنوات، حيث يُفرض السلام عبر من يملكون القوة لا من يملكون الحق. هذا النهج هو ذاته الذي أعاد إنتاج الفشل في تجارب سابقة أُديرت خارج إرادة شعوبها، وأدى إلى استمرار النزيف بدلًا من إيقافه.

ورغم هذا التغييب الدولي، لا يمكن تجاهل أن الحركات السياسية الثورية لا تزال تقدم أطروحات واقعية وواضحة تُؤسّس لسلامٍ عادل ورؤية ما بعد الحرب. تحالف صمود كان من أوضح من طرح هذه الرؤية، عبر مسارات متوازية تشمل وقف إطلاق النار، حماية المدنيين، العدالة الانتقالية، وتشكيل سلطة مدنية انتقالية ذات صلاحيات كاملة تستند إلى الإرادة الشعبية وتُعالج جذور النزاع، لا أعراضه. هذه الطروحات، رغم وضوحها، لا تتصدر طاولات المجتمع الدولي، لا لضعفها بل لأن من اختار هندسة الحل تجاهل من حملوا الوعي الثوري في وجه السلاح.

ولعل الأخطر من ذلك كلّه هو تغييب أي خطة مركزية لما بعد وقف إطلاق النار. ليس لأن الرؤى معدومة، بل لأن أصحابها لا يجلسون على الطاولة. لا توجد رؤية دولية مُلزِمة لإعادة الإعمار، ولا مسار واضح للعدالة الانتقالية، ولا آلية حقيقية لضمان المحاسبة أو المصالحة. ما يُطرح الآن ليس تفكيرًا في المستقبل، بل إدارة مرنة لتأجيل الكارثة، بطريقة تبدو متحضرة لكنها أشد فتكًا. وإذا أُوقفت الحرب غدًا بضغوط الخارج، فإنها ستُعاد بصيغة أخرى ما لم تُصاغ رؤية سودانية مكتملة تُعالِج أسباب الانهيار لا مظاهره.

لا أحد يدّعي أن الفاعلين الإقليميين لا دور لهم، ولكنهم لا يمكن أن يصوغوا حلاً حقيقيًا دون صوت السودان وأهله. فكل ما يُطرح دون تمثيل داخلي ليس مبادرة سلام، بل هندسة مصالح. وكل تدخل خارجي نتج بالأساس عن غياب الإرادة، وتمزق الداخل، وانشغال الفاعلين المحليين بالمغانم بدلًا من إنقاذ الوطن.

السؤال الجوهري لم يعد كيف نوقف الحرب؟ بل هل نملك بعدُ الإرادة لتوقيفها؟
وإذا كنا لا نملكها، فهل نملك على الأقل الكرامة لرفض أن يُدار مصيرنا من غرف لا تحتوي على سودانيٍ واحد؟
السودان لن يُنهضه مؤتمر بلا سودانيين، ولن يُحييه تصريح متناقض، ولن يُنقذه الداخل المنشغل بالمناصب.
النجاة تبدأ بالاعتراف بأن ما نحن فيه ليس نتيجة حتمية، بل حصيلة خيارات سياسية انطلقت من تقاطع مصالح الجيش والدعم السريع وفلول الإسلاميين، الذين لم يترددوا في التضحية بوحدة البلاد مقابل تثبيت مواقعهم.
ولكن هذا الاعتراف، رغم ضرورته، لا يصنع مستقبلًا ما لم يُترجم إلى إرادة سودانية جامعة تقف في وجه استمرار الحرب، وتُسقط مشروعيتها، وتُعيد الاعتبار للتنوع السياسي باعتباره مصدرًا للقوة لا مبررًا للإقصاء.
فقط حين يجتمع السودانيون على رفض الدم، ومحاربة خطاب الكراهية، وبناء مشروع وطني شامل، يمكن للسلام أن يُصاغ لا أن يُفرض، وللوطن أن يُنهَض لا أن يُدار من الخارج.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..