مقالات وآراء سياسية

“تأسيس” حميدتي.. وثيقةُ الانفصال البارد

نزار عثمان 

على التخوم المثخنة بالجراح، بين جثث الخرطوم المحترقة، وأضلع جبال النوبة الواجفة، ومكابدات دارفور التي لم يَعُد القاتل يخفي وجهه فيها… يحاول محمد حمدان دقلو (حميدتي)، أن يصوغ وطناً من العدم، ويتطلع عبد العزيز الحلو إلى خلاصٍ ليس هذا طريقه، لتشييد “الدولة العلمانية” على أنقاض دولةٍ ممزّقة، لا تعرف أين تبدأ حدودها، وأين تنتهي قبورها، في هذه الحرب العبثية التي يتعامل معها كثيرون من حولنا كما لو كانت نزاعاً بين أشباح بلا وزن.
هناك، في نيالا المُعذّبة، في سديمِ الدمار وعلى تلال ركام الخراب، اجتمعت الأحلام الممزّقة على طاولة معلّقة في الفراغ، لتُعلن عن ولادة هيئة قيادية لتحالف “تأسيس”، برئاسة حميدتي، ونائبه الحلو. خطوة تكشف عن نوايا المُضي قُدماً نحو تشكيل “حكومة موازية”، تستظل بعنوان “السلام والوحدة”، وتستند إلى سطوة السلاح لا شرعية الثورة السلمية ولا الانتخابات التي كانت في بال الصبايا والشباب؛ صنّاع ثورة ديسمبر المجيدة.
“الحكومة الموازية” مشروعٌ تمّ التلويح به عند التوقيع على ميثاق نيروبي، في فبراير الماضي. أراد أصحابه أن يقولوا إن ثمة بديلاً للحرب، فإذا به وثيقة حرب جديدة، وأفق تقسيمٍ لا يرفّ له جفن. فمنذ لحظة التلويح تلك، خيّم الصمت الثقيل على الملامح، وتوارى الحماس خلف وجوهٍ متحفظة.
لم تكن العواصم المجاورة متحمّسة، ولم تجد الفكرة من يحتضنها إلا أصحابها. “تقدّم” ذاته جفلَ منها، وارتضى الانقسام وتغيير اسمه إلى “صمود”. حتى نيروبي، التي فتحت الأبواب، لم تفتح قلبها. أما الاتحاد الإفريقي، فكان أكثر وضوحاً: لا شرعية لهذا المسار.
الإعلان عن الهيئة القيادية للتحالف، لم يكن لحظة احتفال، بل كان أشبه بقدّاسٍ جنائزي على حطام دولة تتفكك. تحالف الدعم السريع والحركة الشعبية – شمال، ومعهما الجبهة الثورية وشظايا من حزبي الأمة والاتحادي، قرروا القفز على المراحل، معلنين ميثاقاً سياسياً يتحدث عن سودانٍ جديد علماني فيدرالي، ومجلس رئاسي من 15 عضواً، وجيش جديد يولد من رحم الميليشيات.
ما جرى في نيالا ليس مجرّد مؤتمر أو إعلان سياسي. إنه إعلان نوايا… نوايا قَصّ شريط نظامٍ بديل، ونحت هيكل سلطوي على مقاس الدبابات. رفعٌ لسقف المواجهة، وتسديدُ صفعة للخرطوم وبورتسودان معاً، ولكل مدينة سودانية ما زالت تحلم بوحدةٍ يمكن ترميمها.
ما جرى ليس إلا ولادة جديدة لمشاريع قديمة: الكل يريد حصته من السودان، وإن كان الثمن مزيداً من التشظي. الجميع يرفع شعارات “الوحدة والسلام”، ولا أحد يعمل لأجلهما.
هل يكتب الحلو وحميدتي مستقبل السودان أم يُرسّخان تقسيمه؟
الجواب، في عمقه، لا يهمّهم بقدر ما يسترعيهم ألا يُكتب المستقبل بيد البرهان.
وهل يملك البرهان لنفسه شيئاً؟ إنه هناك في بورتسودان يقف كمن يحمل مفتاح الدولة، دولة من ورق. حكومة باهتة، يسعده أنها لا تزال تحظى باعتراف دولي، ولو هشّا، وسندٍ عسكري حتى لو كان ضئيلا.
يا لها من لعبة مصائر قاتلة. فمنذ أزمان بعيدة ظلت أشباح الفشل تحوّم فوق هذا الوطن. في مختلف عهوده الديمقراطية أو الدكتاتورية. من وعد الدولة الخجول إلى دولة الوعد الكاذب، والدين الكاذب.
دولة المشانق والانقلابات والضغائن والدسائس السياسية الكبرى والحروب الـ بلا سببٍ ممتاز. فالطبقة السياسية السودانية، بوجهيها الرسمي والموازي، تمارس لعبة تدوير الفشل، وتسند قضايا البلاد الكبرى إلى أمراء حربٍ ونُخبٍ هجينة تخلّت عن حلم الدولة الجامعة. الجيش في الشمال والشرق، والدعم السريع في الغرب، الجنوب قرّر مصيره سلفاً… والخرطوم في العراء.
من يقرأ “وثيقة تأسيس” يدرك أنها ليست مجرد رؤية، بل دستور أزمة. دستور يُكرّس الفيدرالية على أرضية الانقسام، ويُشيّد الجيش الوطني من قوى ومليشيات غير متجانسة.
ما يبدأ باسم التعددية قد ينتهي بانفجار الهويات. وما يُسمّى “الوحدة الطوعية” قد يُغذّي شهية الانفصال الطوعي بكثافة قد لا يحتملها عقل.
السودان في هذه اللحظة أمام مفترقٍ مرير: إما أن يضع أهله النجباء (وأين هم؟) حداً للتمزّق قبل أن يصبح ممزقاً رسمياً، أو أن يعتادوا وجود حكومتين وجيشين ودستورين، مثل ليبيا، ثم يبدأ سباق التتابع لرؤية دويلات جديدة في المفترق.
في الحروب، لا يكفي أن تنتصر بالسلاح. السؤال الأبقى: هل تملك مشروعاً للحياة؟
أما ما دون ذلك، فليس سوى انتصار على الرماد.

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..