مقالات وآراء

كيف يستقيم الظل و العود أعوج 101؟

إيران وإسرائيل: حرب الألفية السابعة وصراع الرؤى الطائفية والتقنية في الشرق الأوسط

 

الصديق المريود 

لم تكن الضربة الأخيرة على طهران مجرد عمل عسكري عابر، بل ضوءاً كاشفاً لغرفةٍ سوداء تحيك داخلها أعقد شبكات التجسس والاختراق التكنولوجي في الشرق الأوسط. اندلعت الحرب الجديدة — حرب الألفية السابعة كما تسميها النخب الفكرية في طهران — في فجر 13 يونيو 2025، لكن جذورها تمتد لعقود من التنسيق السري بين الهند، إسرائيل، وجاليات منتشرة في الخليج وأفريقيا.

 

إننا أمام مشهد غير تقليدي؛ تتقاطع فيه الخوارزميات بالفتاوى، ويتداخل فيه الطموح الطائفي بالتفوق السيبراني، ليعيد صياغة العلاقة بين الإنسان والحرب، وبين الدين والدولة، وبين الاحتلال والتحرر.

 

لقد استثمرت إسرائيل والهند في بناء شبكة استخباراتية اقتصادية اخترقت البنى التحتية لدول الخليج، مستخدمة الشركات التقنية كغطاء ناعم لأخطر عمليات الاختراق السيبراني. ليس من قبيل المصادفة أن تكون كبرى الشركات الهندية — TCS، Wipro، Tech Mahindra — مسؤولة عن نظم الاتصالات، والبيانات البيومترية، والمطارات، والبنوك. تلك الشركات لم تكن فقط أدوات اقتصادية، بل أدوات تجسس مغلفة بالابتسامات المهنية.

 

إن اليد التي لم تُرَ — يد مهندسين هنود يعملون تحت راية موساد — كانت وراء العديد من الاغتيالات التي هزّت المنطقة، من سليماني إلى فخري زاده، ومن قادة حماس إلى شخصيات سياسية في إفريقيا والخليج.

 

والأخطر من ذلك، أن هذه الشبكة لم تُضرب من إسرائيل مباشرة، بل من غرف الفنادق، ومن مراكز البيانات التي تدار تحت شعارات “العمالة الوافدة”، وهي ما يشير إلى استعمار ناعم متخفي، تُمارسه الهند وإسرائيل على حساب أمن المنطقة.

 

ما حدث في يونيو 2025 هو نقطة مفصلية في تاريخ الحروب. لقد استخدمت إيران صواريخ “الشفق” المطلية بجسيمات نانوية، قادرة على خداع الرادارات، ونفّذت هجمات خوارزمية بشيفرات اخترقت منظومة “الوحدة 8200” الإسرائيلية.

 

الذكاء الاصطناعي أصبح القائد، والطائرات المسيّرة بحجم الحشرات (“السرعوف”) قطعت كابلات الألياف الضوئية، وتسببت في شلل إلكتروني شبه كامل في قيادة الجيش الإسرائيلي. إننا أمام “موت رقمي” لم يسبق له مثيل، كما وصفته مجلة Le Monde diplomatique.

 

وهنا، لم يعد معيار الردع هو حجم الجيش أو عدد الدبابات، بل سرعة الخوارزمية، وعدد الأكواد المتولدة في الثانية، وعدد الأقمار الصناعية العاملة.

 

في قراءة المفكر د. الوليد آدم مادبو، لا يمكن فهم الصراع بين إيران وإسرائيل كصراع بين قوتين قوميتين فقط، بل كصراع بين رؤيتين أخرويتين متطرفتين. كلا النظامين — الصهيوني والثيوقراطي — يمثلان طغيانًا مغلفًا بشعارات الخلاص.

 

إسرائيل، من جانبها، تحوّلت من مشروع عسكري إلى منظومة هيمنة معرفية، تمارس استعمارًا ناعمًا باسم “الديمقراطية”. بينما النظام الإيراني، رغم خطابه المقاوم، يستنسخ ذات منطق الإقصاء والاستعلاء باسم “ولاية الفقيه”. وكما قال عبدالكريم سروش: “حين يتحول الدين إلى دولة، فإن كليهما يفقد جوهره”.

 

كلا المشروعين يفتقدان إلى البعد الإنساني التحرري؛ فهما سلطويان، طائفيان، إقصائيان، يديران الدولة كأنها حقل ألغام عقائدي.

 

مع انكشاف الشبكة التجسسية، بدأت دول الخليج بمراجعة شاملة للبنية الأمنية. تم تجميد تصاريح الشركات الهندية، وسحب العقود لصالح شركات مصرية وصربية. حتى التعاون الأمني مع باكستان وإيران بدأ يأخذ منحنى تصاعدياً. أفريقيا، التي كانت ملعباً خلفياً لهذه القوى، قد تشهد هي الأخرى إعادة اصطفاف تتجاوز المعادلات التقليدية.

 

هذا يعني أن العالم بصدد خريطة جيوسياسية جديدة، لا تقسمه على أساس “شرق وغرب”، بل على أساس “مَن يتحكم في الشيفرة ومن يُستَخدم فيها”.

 

إذا استمرت وتيرة الذكاء الاصطناعي، فإن الحروب المستقبلية لن تشهد جنودًا على الأرض، بل خوارزميات تتنازع في مراكز البيانات. الصين، روسيا، وأمريكا تدرك هذا، لذا سارعت إلى تحديث منظوماتها بناءً على ما حدث في يونيو 2025.

 

وبحسب Foreign Affairs: “الدولة العظمى لم تعد تُقاس بعدد طائراتها، بل بعدد خوارزمياتها القادرة على التخفي، والتعلم، والضرب دون إنذار.”

 

ما نحتاجه اليوم ليس الانحياز إلى أحد المحورين، بل تفكيك كليهما. فكلٌّ منهما لا يمثل شعوبه، بل يمثل منظومة طغيان باسم العقيدة أو التفوق العرقي.

 

الحل في بناء مشروع تحرري، علماني–ديمقراطي، غير طائفي، يقوم على المواطنة والعدالة التاريخية. مشروع ينقل مركز الثقل من “عقيدة الهيمنة” إلى “عقلانية التحرر”، من “الجيش العقائدي” إلى “الجيش الوطني”، ومن “صراع الطوائف” إلى “حق الإنسان في الحلم”.

 

إن الحرب بين إيران وإسرائيل ليست مجرد مواجهة عسكرية، بل لحظة كاشفة لانهيار النماذج التقليدية في الحكم والمقاومة. إنها دعوة لإعادة تعريف الشرق الأوسط، لا بوصفه ساحة للصراع، بل كحاضنة للمعنى الإنساني.

 

فالتحرر لا يكون في اقتحام القواعد العسكرية، بل في تفكيك منظومات الاستبداد المعرفي والطائفي. والنصر الحقيقي لا يُقاس بعدد الصواريخ، بل بقدرتنا على أن نحلم خارج سرديات العنف، وأن نبني شرقًا أوسط جديدًا يكون فيه الإنسان هو المركز، والحرية هي القيمة، والعدالة هي الغاية

إذا كانت حرب الألفية السابعة قد فجّرت البنى التقنية والعسكرية التقليدية، فإن آثارها تمتد لتغير طبيعة الدولة، وهوية الصراع، وأدوات السيطرة. فمنطقة الشرق الأوسط — التي ظلت لعقود محكومة بثنائيات “النفط والدين، الطائفة والقوة، الجغرافيا والاحتلال” — تدخل الآن حقبة جديدة، عنوانها: التحكم عبر البرمجيات، لا الحدود.

 

ستتحول السيادة في المنطقة إلى من يملك الخوارزميات الأقوى، والشيفرات الأسرع، والقدرة على التعلّم الذاتي للأنظمة. لن يكون التهديد مجرد دبابة تتقدم، بل كودٌ رقمي يتسلل إلى شبكات الكهرباء والمياه والمطارات.

 

دول الخليج، إذا لم تراجع نموذج “الدولة الريعية التقنية”، ستتحول إلى كيانات مخترقة سياديًا. أما إيران، فستضطر إلى إدماج الثورة الرقمية ضمن أجهزتها الأمنية والعقائدية إن أرادت الحفاظ على موقعها. وإسرائيل، رغم تفوقها الظاهري، قد تجد نفسها في صراع مع شركات ذكاء اصطناعي داخلية تهدد توازنها الأمني والسياسي إذا ما انفلتت من عقال الدولة.

 

وعالميًا، ستُعاد صياغة التحالفات ليس وفق المواقف السياسية، بل بناءً على من يملك قدرة الوصول إلى البيانات وتوظيف الذكاء الاصطناعي في الردع والهجوم. وقد تتشكل تحالفات عابرة للأيديولوجيا، يجمعها القلق من أن تتحول الحروب المستقبلية إلى “حروب قرار ذاتي”، حيث تشتبك البرامج وحدها دون إذن بشري.

 

إن الذكاء الاصطناعي لن يلغي الحروب، لكنه سيجعلها أكثر صمتًا، وأشد فتكًا، وأكثر عزلة عن الضمير الإنساني. وسيصبح الأمن القومي للدول، لأول مرة، مرهونًا بالجيل القادم من المبرمجين لا الجنرالات، وبالبيانات لا بالبوارج

وسط هذا التحول الجذري في طبيعة الحروب، لا يمكن تجاهل موقع السودان وأفريقيا في الجغرافيا الرقمية الجديدة. فالقارة التي طالما وُصفت بأنها هامشية في السياسات العالمية، أصبحت اليوم حقل اختبار للتقنيات الاستخباراتية المتقدمة، وساحة تتصارع فيها القوى الكبرى للسيطرة على الموارد والبيانات والبنى التحتية.

 

السودان، بتقاطعه الجغرافي والثقافي بين المشرق العربي والقرن الأفريقي، مرشح لأن يكون محورًا رئيسيًا في معادلة الردع الإقليمي — إما كجسر عبور للمصالح الكبرى أو كقاعدة انطلاق لرؤية تحررية ثالثة تنبثق من الجنوب. ومع تصاعد التوترات التقنية، سيكون لبلد مثل السودان أهمية استراتيجية في ملفات تتعلق بتكنولوجيا الأقمار الصناعية، وتأمين الموانئ، وربط شبكات الألياف البصرية العابرة للقارات.

 

أما أفريقيا، فإنها تواجه اليوم خيارًا مصيريًا: إما أن تُستعمل كساحة خلفية لحروب الآخرين، أو أن تؤسس مشروعًا سياديًا رقميًا يعتمد على بناء القدرات المحلية في الذكاء الاصطناعي، وحماية البنى التحتية من الاختراق، وتأسيس تعاون قاري لمجابهة “الهيمنة الرقمية” الجديدة.

 

لقد أثبتت حرب يونيو 2025 أن الأمن لم يعد قضية تخص الجيوش فقط، بل بات رهينًا بتحكم الدول في فضائها السيبراني. وأمام السودان وأفريقيا فرصة نادرة لصياغة نموذج مستقل، يوازن بين التنمية التكنولوجية والسيادة الوطنية، ويخرج من عباءة التبعية التي جعلت القارة عرضة للاختراق والسيطرة عبر “البرمجيات المستوردة” والعمالة الأجنبية المدفوعة بأجندات استخباراتية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..