مقالات وآراء

أنماط طرائق التفكير السوداني (٢٨)

عوض الكريم فضل المولى

وحسن عبد الرضي الشيخ

 

في حضرة الغفلة : لماذا يتغالط السودانيون في البديهيات؟

 

يُحيرنا – وربما يُحير كثيرين غيرنا – هذا الميل الجماعي الغريب لدى قطاعات واسعة من الشعب السوداني إلى إنكار الواضحات، والتغافل عن البدهيات، والتمادي في تصديق الأكاذيب حتى تصير “حقائق” يُدافع عنها بجرأة وصلف.

 

لماذا يشيع مثلاً – وبتكرار عجيب – أن حكومة ثورة ديسمبر كانت فاسدة، مع أنها لم تحكم إلا لعام وبعض عام، قضت معظمه تحت قبضة المكون العسكري الذي ظل يلتفّ على القرار المدني، ويكبل الحكومة بكل وسائل الابتزاز والانفلات؟ كيف لحكومة محاصَرة، منهَكة، بلا موارد، ومراقبة من عيون الفلول، أن تكون هي رمز الفساد الذي تفرغ الشعب لجلده؟

ثم من أين جاء اليقين الجازم بأن (قحت) هي من أشعلت الحرب؟ أليس كل ما في الوسائط منذ سقوط البشير إلى عشية الحرب، ينطق بأن الإسلاميين وفلولهم قد توعدوا الثورة والثوار في العلن، وراهنوا على “الحرب” في السر والعلن؟ ألم تكن جملة: “إذا رجعت قحت للسلطة سنشعلها حرباً” حديثهم المفضل؟

فمن أين جاءت هذه البداهة المصنوعة بأن الاتفاق الإطاري هو من فجّر الحرب؟!

وهل يعقل أن من وقّع اتفاقاً للخروج من الأزمة هو ذاته من تسبب في إشعالها؟

 

ومن الطوام التي تقفز أمامنا بلا حياء، الترديد الكسيح بأن قوى الحرية والتغيير هي الذراع السياسي للدعم السريع، حتى بعد أن رفضته وأدانته في أكثر من موقف، بل وتبرأت منه مراراً.

ثم هذه الهستيريا التي استقبل بها الناس شائعة موت محمد حمدان دقلو، وما تبعها من مزاعم أغرب: أن ما نراه من ظهوره هو “ذكاء اصطناعي”! كأننا شعب لا يصدق شيئاً مهما كان واضحاً، ولا يكف عن تصديق كل ما هو غريب ومفبرك!

 

ولا تقف الغرابة عند هذا الحد، بل تصل إلى حد العبث بالشعارات الفارغة: “جيش واحد شعب واحد!”

أي جيش؟ ذلك الذي لم يخض حرباً واحدة من أجل الشعب؟ بل كانت كل حروبه ضد الشعب؟ أي شرطة؟ تلك التي لا تزال ترى أن المواطن مشروع مشتبه فيه يجب كسر إرادته؟ هل نسي الناس أن كل الأجهزة الأمنية التي نردد وحدتها معنا اليوم، إنما أنشأها المستعمر لحماية سلطته، ثم ورثتها النظم المستبدة لقمعنا؟

 

ويستمر الجنون حين نسمع من يدافع عن عهد الإنقاذ ويصفه بالاستقرار والرخاء!

أي رخاء؟ ذلك الذي هرب فيه ملايين الشباب من الوطن؟ ذلك الذي انتشر فيه الفساد على كل المستويات؟

وهل الاستقرار هو أن تعيش عشرين عاماً في زنزانة فكرية واقتصادية وأخلاقية؟!

 

وما يزيد الطين بلة، أن كثيراً من الناس لا يزالون يأخذون أخبارهم من أجهزة إعلام النظام، من صحف وفضائيات وكتائب إلكترونية مشهورة بالكذب، ولم يأت من ورائها خير قط. كيف يعقل أن نصدق القاتل حين يحدثنا عن العدل؟ أو نصدق اللص حين يصف لنا الشرف؟

 

والمؤلم حقاً أن كل من شاء، يستطيع أن يتحدث باسم الشعب السوداني، دون أن يجد من يوقفه أو يسأله: من فوضك؟ من تمثل؟ لماذا تنطق باسمنا؟ بل تجد له من يصفق، ومن يقتبس كلامه وكأنه آية منزلّة.

أما الذي يبكينا، حقيقة لا مجازا، حين نجد معلماً معاشياً افنى عمره في التعليم يردد، وبكل الاسف، عبارات من شاكلة : (ناس قحط حرشوا اسرائيل وامريكا على البرهان والجيش). وغيرها الكثير من الترهات التي تجعلك تحار في أن كيف تجادل مثل هؤلاء وأين تجد اللغة المناسبة لتحاوره بها. تصور ماذا حقن امثال هؤلاء في شرائين تلامذتهم وطلابهم الذين اصبحوا اليوم “في ستين” من أعمارهم. (ربنا يقدرنا على خشمنا).

 

قد يُقال إن لهذا كله أسباباً مفهومة: الخوف من البطش، الطمع في عطايا السلطة، المجاملة، أو حتى مجرد الأمل الأحمق في غدٍ أفضل…

لكن، هل يكفي هذا لتفسير هذا الانحطاط الجماعي في التفكير النقدي؟

هل يعقل أن يسير الناس عشرات السنين بلا مساءلة، بلا شك، بلا نقد، بلا تمحيص؟

هل صار المنطق مرفهاً نخبوياً لا يسع العامة؟

هل بات الوعي لعنة لا نصيب لنا منها؟

هل نحن كأفراد ومجتمع ضحية تربية سلطوية استبدادية حرّمت علينا ملكة التفكير، أو على الأقل قزّمتها وجعلتها رجساً من عمل الشيطان؟

 

أين تكمن المشكلة؟

في التعليم؟

في الإعلام؟

في الدين المُسيّس؟

في السلطة الأبوية التي تحكمنا من البيت إلى القصر؟

في اللاعقلانية المترسخة في اللاوعي الجمعي؟

أم أن فينا، كجماعة، عطباً عميقاً جعلنا نصدق الأكاذيب لأن الحقيقة تؤلم، ونكذّب الوقائع لأن مواجهتها تفضح عجزنا؟

 

أما الأدهى، فهو أن نجد من يردد – بكامل الثقة – أننا “أعظم شعب”، وأن “السودان أحسن بلد في العالم”، في تكذيب صارخ للواقع، ورفض للحقائق، واستمراء للوهم. لا ينكر احد أن الشعب السوداني، قبل اللوثة التي تولى كبرها الاخوان المسلمون، كان شعبا مشهوداً له بالخلق الجميل والنبل والشهامة والرجولة، هذا مع يقيني الراسخ ان جرثومة الاخلاق مركوزة في اعماق هذا الشعب العملاق الذي يتقدمه اقذام. إن تلك الينابيع الثرة لا بد لها أن تتفجر يوما ما.

 

إننا لا أملك إجابات قاطعة لهذه الأسئلة،

لكننا نؤمن أن طرح السؤال الصحيح هو بداية الخروج من التيه.

فهل نجرؤ، ولو مرة، أن نسأل أنفسنا بصدق:

لماذا صرنا هكذا؟ وإلى متى نظل كذلك؟

ربما حينها فقط، نبدأ رحلة الشفاء.

[email protected]

تعليق واحد

  1. منطقك غريب
    الفساد يمكن ان يبدا من اليوم الاول ويستمر ولو كانت المدة قصيرة الفساد هو الفساد
    وقحت ودون الدخول في التفاصيل وما حدث من فساد في عهدها ومن قادتها يمكن ان نجمل فسادها في منطقها وفكرها وطرائق تفكيرها حيث انها سرقت الثورة واعطتها لقلة حزبية يسارية واحزاب تابعة لا قواعد لها وحاولوا فرض اجندتها وفكرها البائر على الشعب السوداني غصبا عنه وفي سبيل ذلك رفضوا الانتخبات وطالبوا بتمديد الفترة الانتقالية لسنوات عدة اقلها 10 سنوات دون الرجوع للشعب ومحاولة تطبيق النظام العلماني وتجريد الشعب من الاقتداء بدينه وشرعه والالتزام بتعاليم دينه في الحياة العامة
    هذا هو الفساد بعينه غير الفساد المالي والاخلاقي لقادتها الذي ازكم الانوف
    وقس على ذلك بقية ترهاتك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..