دولة 56 : من ذروة المجد إلى لحظة السقوط

ادم بركة دفع الله عطية
شهدت دولة ما يُعرف اصطلاحًا بـ”دولة 56″ ذروة مجدها خلال عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. فقد تركزت مظاهر التطور والحداثة آنذاك في المدن الكبرى، لاسيما في مناطق الوسط وبعض أجزاء الشمال، حيث تميزت الحياة الثقافية والفنية والرياضية بنشاط لافت.
غير أن هذا المجد كان مشوبًا باختلال بنيوي عميق، تمثل في احتكار السلطة والثروة من قِبَل نخبة محدودة، تبنت مشروعًا لهوية أحادية، قوامها العروبة والإسلام، متجاهلة بذلك التعدد الثقافي والإثني العميق الذي يميز المجتمع السوداني.
في تلك الفترة، أفرزت الدولة نخبًا متميزة في مجالات السياسة والفنون والرياضة والأدب. فقد برز في الرياضة لاعبون لامعون مثل زكي وقادرين، وفي الفن الكابلي، ووردي، وشرحبيل، وفي الصحافة والأدب أسماء مثل حسن ساتي، ومحجوب محمد صالح، والعالم اللغوي عبد الله الطيب. ويلاحظ أن بعض هذه الرموز، مثل عبد الله الطيب، حمل هاجس إثبات الانتماء العروبي إلى حد بعيد، في مسعى للتأكيد على هوية ثقافية
،مدفوعًا بما يشبه عقدة إثبات الانتماء للعروبة، كما تفعل الفتاة حين تغيّر لون بشرتها هروبًا من عقدة اللون.
بيد أن التصدعات بدأت تتسارع مع نهاية السبعينيات، حين دخلت البلاد في حقبة جديدة مع نظام جعفر نميري، وخاصة منذ إعلان قوانين سبتمبر. فقد أتاحت تلك المرحلة صعود فئات جديدة إلى المشهد السياسي والفكري، معظمها من محدودي التعليم أو من خريجي المؤسسات الدينية التقليدية، الذين لم يمتلكوا أدوات التفكير النقدي أو القدرة على استيعاب متغيرات العصر.
ومع مرور الوقت، زادت حدة التراجع، إذ بدأ الفضاء العام يضيق أمام الكفاءات المستنيرة، مقابل تصاعد نفوذ الخطاب الشعبوي والأصوات الانفعالية. وها نحن اليوم نعاين لحظة السقوط الفعلي لتلك الدولة، إذ أصبحت واجهتها رموزًا لا تمتلك أي رصيد من الفكر أو الثقافة أو الوعي،
بل تمثل وجهًا صارخًا للرداءة والتفاهة،
أمثال الفاشل برهان ، الجاكومي، وحمدي سليمان صاحب مقولة «بلادي حقول»، وبعض الأصوات الإعلامية والفنية مثل مزمل أبو القاسم، وعز الدين الهندي، وضياء الدين بلال، التوم هجو، ندي القلعة جمال فرفور ، وياسمين بت كوستي فضلًا عن من يُسمون أنفسهم “خبراء استراتيجيين” ممن يملأون الشاشات بتحليلات سطحية بلا عمق أو رؤية.
إن ما نشهده اليوم ليس مجرد أزمة أشخاص، بل هو تجسيد لانهيار مشروع دولة تأسست على إقصاء التنوع وتكريس الامتياز الجهوي والثقافي. إن دولة 56، بهذا المعنى، قد وصلت إلى نهاية مسارها، إذ سقطت فعليًا حين فقدت قدرتها على تجديد نخبتها، وعلى الاعتراف بتعدد السودان الحقيقي، سياسيًا وثقافيًا واجتماعيًا.
نعم، لقد سقطت تلك الدولة … ولا عزاء للماضين.
مشكلتكم في أنفسكم الملئة بالعقد النفسية والحقد والعنصرية وإحتقار الذات المشكلة فيكم ومنكم