مقالات وآراء سياسية

ما يجب أن يُقال لمن يصنعون الفتنة: السودان ليس حقل تجاربما يجب أن يُقال لمن يصنعون الفتنة : السودان ليس حقل تجارب

زهير عثمان حمد 

 

في هذه اللحظة الموحشة من تاريخ السودان، حيث تعوي رياح الانقسام، وتتشقق جدران الوحدة الوطنية، تغدو الدعوة إلى وقف إجراءات تشكيل الحكومة الجديدة ضرورةً وطنية، بل صرخة أخيرة قبل السقوط في الهاوية.

 

لسنا أمام اختلاف سياسي عابر. نحن أمام مشهد يتربص فيه شبح الحرب الأهلية، حيث تهدد خطى التسرع في التشكيل بأن تلد أكثر من حكومة، وأكثر من راية، وأكثر من وطنٍ ممزق إلى “سودانيات” متناحرة. ليست هذه نبوءة متشائمة، بل اعتراف موجع بما دلّ عليه تاريخنا القريب : أي مشروع سلطة دون إجماع هو وصفة للدم.

 

رقعة على جرحٍ نازف

كيف تُبنى حكومة في غياب التوافق الوطني؟

إن محاولة فرض سلطة جديدة في ظل الانقسام القائم ليست حلاً، بل رقعة رثة فوق جرح نازف، لا توقف النزيف، ولا تداوي الألم. بدون حوار واسع وصادق، بدون عقد اجتماعي جديد، لن تكون الحكومة المرتقبة سوى أداة أخرى لتكريس الانقسام، وإضفاء شرعية زائفة على واقعٍ يتداعى.

 

شيطنة الهامش : القناع الذي يسقط

ما أشد سهولة الاتهام بالـ”عمالة” والـ”ارتزاق” في خطاب نخب المركز!

كلما برز صوت من الأطراف، نادياً بإعادة تعريف الدولة، أو مطالباً بحقوق منسية، جُوبه بسيل من الشتائم الجاهزة : خائن، عميل، مرتزق.

 

لكن دعونا نزيح القناع. أليست هذه التهم أداة أيديولوجية لحماية الامتيازات؟

 

إن تحالف “تأسيس”، على علاته ونقائصه، ليس مشروعاً لتقسيم الوطن، بل صيحة احتجاج ضد تقسيمٍ قائم فعلاً بين مركزٍ مترع بالامتيازات وهامشٍ محروم من الحقوق. إنها المبادرة الأولى منذ الاستقلال التي تحاول أن تكتب دستوراً للحياة من منظور المهمشين، لا من برج النخب المركزية العاجي.

 

من يتاجر بالوطن حقاً؟

أي “خيانة” أكبر من التي ارتكبتها النخبة المركزية عبر عقود؟

 

أليس تسليم السلطة للمستعمر على طبق من فضة خيانة؟

 

أليس رهن موارد البلاد لمستثمرين أجانب، وبيع السيادة لحماة المصالح، خيانة؟

 

أليس الاستعمار الداخلي الذي أقام دولة القمع المركزية، وميّز على أساس العرق والدين، خيانة للوطن وللإنسان؟

 

خطاب المركز يحب أن يكسو نفسه بثياب الوطنية الطاهرة، لكنه يخفي تحته تاريخاً مثقلاً بالتواطؤ والقمع.

 

التكفير السياسي وتفكيك الوطن

ما أخطر تلك الكلمات التي تُطلق لتجريد الآخر من شرعيته: “مرتزق”، “عميل”.

إنها ليست مجرد سباب، بل أداة تفكيك سياسي واجتماعي.

 

تجرد الهامش من أدوات النضال المشروع، وتدفعه إلى خندق المواجهة المسلحة.

تعيد إنتاج الدكتاتورية، وتغلق الأبواب أمام أي حلم بديمقراطية حقيقية.

تؤجج الانقسام الإثني والجهوي، وتحيل الوطن إلى حقل ألغام.

 

إعادة تعريف الوطنية

حان الوقت لتفكيك هذا المفهوم المزيف للوطنية.

الوطن ليس حكراً على المركز، ولا هوية أحادية.

مقاومة الهامش للظلم هي ذروة الوطنية.

 

إن محاسبة النخب المركزية ضرورة أخلاقية وتاريخية، لتصحيح مسار أضاع السيادة، وباع الموارد، وأدار البلاد بعقلية مستعمِر داخلي.

 

ليس كل تحالف دولي خيانة.

تحالفات الهامش مع الضمير العالمي ليست بيعاً للوطن، بل صرخة من أجل إنقاذه من آلة القتل المركزية.

كفاح دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق ضد الإبادة مثال على تحالف مع العدالة، لا مع الأعداء.

 

أسس السودان الجديد

إن الخروج من هذا النفق المظلم لا يكون إلا بإعادة تأسيس الدولة على أسس جديدة:

 

المواطنة المتساوية : حيث لا تمييز بسبب العرق أو الدين أو الثقافة.

 

فصل الدين عن الدولة : لضمان حياد الدولة تجاه المعتقدات، وصون الحقوق للجميع.

 

الاعتراف بالتنوع : دسترة التعدد الثقافي والعرقي كعنصر قوة لا تهديد.

 

العدالة التاريخية : تعويض شعوب الهامش عن عقود الإقصاء والتهميش.

 

إلى أين نحن ذاهبون؟

إلى هؤلاء الذين يظنون أن تشكيل حكومة جديدة اليوم هو حل، نقول:

إنه ليس انتقالاً، بل تكرار مأساوي لتاريخٍ يرفض أن يموت.

إنه ليس بناءً للدولة، بل تحضير لجنازتها.

 

إن السودان يقف عند مفترق طرق حاسم :

إما أن نختار الثورة التأسيسية التي تكتب دستوراً للجميع، وتبني دولة تتسع لأبنائها جميعاً، أو نتركه ينزلق إلى مقبرة جماعية لأحلام شعبه.

 

القمع لم ينتج إلا انفصالاً وحروباً.

وحده مشروع السودان الجديد – القائم على كسر احتكار المركز، وإحقاق العدالة للهامش – يمكنه إنهاء هذه الحلقة الجهنمية.

 

كلمة أخيرة

إن وقف إجراءات تشكيل الحكومة ليس تعطيلًا لمسار الانتقال، بل محاولة أخيرة لإنقاذه.

دعوة لحوارٍ وطني صادق، برعاية محايدة.

دعوة لمؤتمرٍ دستوري يضع أسس دولة جديدة.

دعوة لآليات عدالة انتقالية تُداوي جراح الماضي، وتفتح أبواب المستقبل.

 

لعلنا بهذه الخطوة نعيد للوطن معناه، وللمواطن قيمته، وللتاريخ وجهه الإنساني الذي شوهته الدماء والصراعات.

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..