مقالات وآراء

الاصطفاء الإلهي بين التشريف والتكليف: قراءة قرآنية في مبدأ المساواة والاختيار الرباني

 

د. محمد المنير أحمد صفي الدين

مقدمة من الحقائق الكبرى التي أعلنها الإسلام بوضوح منذ لحظة نزول الوحي، أن جميع البشر خلقهم الله من أصلٍ واحد، وكرمهم بالتساوي في الإنسانية، وسوّى بينهم في الحقوق والواجبات، وجعل معيار التفاضل الوحيد هو التقوى، لا العرق ولا النسب ولا المال. وفي هذا السياق، تتجلى سنة الله في الاصطفاء الإلهي، التي تميّز من ينهض بالتكليف الرباني، لا من يدّعي الشرف الوراثي بلا استحقاق.

المساواة في الخلق: الناس من أصلٍ واحد

قال الله تعالى في سورة الحجرات: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (سورة الحجرات، 13). فالتنوع البشري في الشعوب والقبائل لم يُقصد به التفاخر أو التناحر، وإنما التعارف والتكامل. والتفاضل عند الله قائم على التقوى وحدها. وجاءت السنة النبوية لتؤكد هذا المبدأ، حيث قال النبي ﷺ: ” يا أيُّها الناسُ إنَّ ربَّكمْ واحِدٌ، ألا لا فضلَ لِعربِيٍّ على عجَمِيٍّ ولا لِعجَمِيٍّ على عربيٍّ ولا لأحمرَ على أسْودَ ولا لأسودَ على أحمرَ إلَّا بالتَّقوَى إنَّ أكرَمكمْ عند اللهِ أتْقاكُمْ (رواه البيهقي).

وهكذا، فإن التفاضل لا يكون بالنسب أو الأصل، وإنما بالعمل الصالح وتقوى الله عز وجل.

الاصطفاء الإلهي: مسؤولية قبل أن يكون شرفًا

من سنن الله في خلقه أن يختار من عباده من يحملون رسالته، ويقودون البشرية إلى الحق. لكن هذا الاصطفاء لا يقوم على النسب، بل على التمحيص والاختبار. ويتجلى هذا بوضوح في قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام، حين اجتاز اختبارات صعبة ومواقف عظيمة، ثبت فيها على طاعة الله، فاستحق الإمامة. قال الله تعالى في سورة البقرة: ﴿وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ (سورة البقرة، 124). فالاصطفاء الرباني مشروط بالصلاح والاستقامة، وليس موروثًا بالنسب. فعندما تأهل إبراهيم لإمامة وقيادة البشرية، وبشره الله بذلك التكليف والشرف، طلب من الله تعالي أن يشمل ذريته بهذا التكليف والشرف، فرد الله تعالي عليه بأن الظالمين (وإن كانوا من ذريته) لن يدخلوا في شرف هذا التكليف (لا ينال عهدي الظالمين).

نساء النبي: تشريف مقترن بالتكليف

حين اصطفى الله سبحانه نساء النبي محمد ﷺ، جعل هذا الاصطفاء مشروطًا باختيار الآخرة على الدنيا، ومقرونًا بالمسؤولية الجسيمة في دعم النبي وتبليغ الرسالة. قال الله تعالى في سورة الأحزاب: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)﴾. (سورة الحجرات، 28-30). فهُن أمهات المؤمنين في المقام والقدوة، ولكنهن كذلك مسؤولات عن الالتزام الصارم بأوامر الله، وإلا فإن العذاب عليهن مضاعف.

ذرية إبراهيم: الدين لا يُورَّث بالعرق

أنجب إبراهيم عليه السلام ولدين: إسماعيل من هاجر المصرية، وهو جدّ العرب، وإسحاق من سارة، ومن نسله جاء يعقوب (إسرائيل)، الذي انحدرت منه سلسلة أنبياء بني إسرائيل.

لكن الانتماء العرقي لبني إبراهيم لا يورث الفضل تلقائيًا، فقد قال الله تعالى في بني إسرائيل: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)﴾ (سورة المائدة، 78-79). وفي آية أخرى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ۖ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ۙ وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ۚ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَح ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (سورة المائدة، 13).

من لا ينهض بالتكليف يُستبدل سنة الله الجارية في خلقه أن من يُفرّط في التكليف ويُعرض عن طاعة الله يُستبدل بغيره ممن هو خير منه. قال الله تعالى: ﴿هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ ۖ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ ۚ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ ۚ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم﴾ (سورة محمد، 38).

جوهر الاصطفاء:التوحيد والعدل

غاية الاصطفاء الإلهي ليست التميز الطبقي أو التفاخر العرقي، بل هي تحقيق التوحيد وإقامة العدل. وقد بيّن الله سبحانه صفات من يستحقون التمكين في الأرض بقوله: ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ (سورة الحج، 41). وخاطب الله تعالي داوود عليه السلام مبيّنًا الغاية من الخلافة: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ (سورة ص، 26). خاتمة الرسالة المحورية التي يؤكدها القرآن الكريم أن الاصطفاء الإلهي ليس امتيازًا عرقيًا ولا شرفًا وراثيًا، بل هو تكليف عظيم، لا يثبُت إلا بالصبر والطاعة والتقوى. ومن يتنكّب طريق الالتزام، فإن الله يستبدله بمن هو أصلح وأقوم. فلا يدعينّ أحد أن الله اصطفاه ورفعه فوق بقية البشر وأعطاه حق الاستبداد في الأرض لأنه من نسل إبراهيم عليه السلام. ولنتذكر وصية الله لعباده الصالحين: “وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ”، (سورة البقرة، 190). وأن سلوك من جعل الله له العلو والتمكين في الأرض أن يكون متسقا مع قول الله تعالى: “الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُور) (سورة الحج،41).

مداميك

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..