تحالف تأسيس: بين البندقية وحلم الدولة المدنية… اختبار الطريق نحو السلام

عبدالحفيظ الإمام قسوم
في بلدٍ أثخنته الحروب وتآكلت فيه شرعية الحكم تحت وطأة الصراع المسلح وتعدد مراكز القوى، يبرز تحالف تأسيس كمحاولة جديدة لإعادة ترتيب الأوراق من داخل قلب العاصفة. تحالفٌ يسعى إلى الجمع بين السلاح والسياسة، ويُحمِّل نفسه مهمة شائكة: إقناع المواطن السوداني أولًا، ثم المجتمع الإقليمي والدولي ثانيًا، بأن ما يُبنى اليوم قد يكون معبرًا حقيقيًا نحو دولة مدنية طال انتظارها.
لكن مثل هذا المشروع، إن أراد تفادي مصير التحالفات العابرة والمواثيق المعلّقة، عليه أن يبدأ أولًا من صياغة خطاب سياسي واضح وصادق، لا يوارب ولا يختبئ خلف الشعارات الفضفاضة. خطابٌ يجيب بشجاعة على أسئلة الشارع: ما الرابط الحقيقي بين القوة العسكرية وبين الإطار المدني الذي يلتف حوله هذا التحالف؟ وكيف يمكن تحويل هذا الارتباط من تهمة إلى فرصة للعبور إلى وضعية انتقالية جديدة تحمي الناس من دوامة الاحتراب؟
إن الخطاب وحده يظل حبرًا على ورق ما لم تدعمه خطة عملية محكمة: برنامج انتقالي بجدول زمني واضح، وخارطة طريق بخطوات عاجلة لوقف النزيف الإنساني والاقتصادي والاجتماعي، وإصلاحات حقيقية تُعيد الثقة للمواطن البسيط الذي تعب خلال رحلة عمره الطويله من وعود لم يرَ منها سوى مزيد من الفقر والتشرد. هنا فقط يصبح للبيانات معنى، وللشعارات مضمون.
وفي بلدٍ لم ينجُ حتى اليوم من دوامة المبادرات التي تولد وتموت دون أثر، لا مفر أمام تحالف تأسيس من الانفتاح الصادق على القوى المدنية. نجاحه مرهون بقدرته على بناء جبهة واسعة تضم الأحزاب والتنظيمات الحية ولجان المقاومة والنقابات والمجموعات الشبابية، لا أن يبقى كأنه نادياً مغلقًا تحرّكه مصالح السلاح وحده. فالكتلة المدنية النشطة هي الضمانة الوحيدة حتى لا يتحول التحالف إلى مجرد واجهة ناعمة لقوة عسكرية .
وربما كان أوضح مثال على هذا التحدي أن بعض التجارب المماثلة في المنطقة انهارت لأنها لم تقدر على كسب الشارع ولا مخاطبة الخارج بلغة دبلوماسية رصينة. وهنا تبرز أهمية الخطاب الإعلامي الذكي الذي يخاطب الداخل بلغة بسيطة قريبة من هموم الناس، ويطرق أبواب الخارج بلغة تقنع الشركاء بأن هذا المشروع لا يريد جرّ السودان إلى عزلة أو استقطاب جديد.
ومع تزايد القلق الدولي من انتهاكات حقوق الإنسان في النزاعات الأخيرة، فإن تحالف تأسيس بحاجة إلى موقف أخلاقي معلن: التزام صريح بحماية المدنيين ورفض أي انتهاك أيًّا كان مصدره، لأن الدم السوداني الذي نزف طويلًا لم يعد يحتمل مناورات التبرير.
أما خارجيًا، فإن الدبلوماسية تظل الأداة الأقل كلفة والأكثر مرونة لكسب مساحات المناورة، سواء لبناء جسور الثقة مع الجوار الإقليمي أو لانتزاع دعم سياسي من قوى دولية تراقب الميدان السوداني بعيون الشك والحسابات المعقدة.
ختامًا:
إن اختبار المصداقية الأهم لهذا التحالف لن يكون في البيانات وحدها، بل في قدرته على تقديم إشارات عملية واضحة بأنه مشروع سلام لا مشروع سلطة، وبأنه خطوة للانتقال إلى دولة القانون والمواطنة لا واجهة لشرعنة السلاح. وحده الشعب الذي اكتوى بنار الحرب يملك الكلمة الفصل: سيمنح ثقته حين يرى بوادر حقيقية على الأرض، لا حين تُلقى عليه خطابات طمأنة من خلف المكاتب.
وفي لحظة مفصلية كهذه، يقف تحالف تأسيس أمام مفترق طرق: إما أن يبني مستقبله على الصدق والشراكة والوضوح وتحقيق التوازن، أو أن تبتلعه لعبة الحرب المفتوحة على كل الاحتمالات.
والسؤال باقٍ:
هل يكون تحالف تأسيس جسرًا إلى السلام… أم محطة عابرة في مسلسل التآكل؟