أخبار السودان

“كرامة”.. حلّ المليشيات أم إعادة إنتاجها؟

 

 تحوّلت الحرب السودانية، التي انطلقت تحت شعار “الكرامة” من أجل تفكيك مليشيا الدعم السريع، إلى أداة لإنتاج المزيد من المليشيات، حتى باتت “الملشنة” ظاهرة متفشية تهدد وحدة الدولة وأمن المجتمع.

تنتشر الفوضى في مختلف أقاليم السودان، من معارك مسلحة في الأعراس إلى مليشيات تدّعي الانتماء للجيش، لكنها تمارس القمع والانفلات الأمني ذاته الذي اتُهمت به قوات الدعم السريع. الأخطر، أن بعض عناصر الدعم باتوا جزءًا من مليشيات جديدة مثل “درع السودان”، بعد تغيير اسم الزي فقط.

في مفارقة مؤلمة، تُطالب الدولة بتجريم الدعم السريع كمليشيا، بينما تشرف بنفسها على تفريخ عشرات المليشيات الأخرى، بعضها بتدريب خارجي في إرتريا، ما يعكس تناقضًا خطيرًا في الرؤية والممارسة.

تحذّر المادة من أن السودان يقف اليوم بين خيارين: دولة مؤسسات مدنية وجيش موحد، أو لا دولة تحكمها المليشيات، وفي الحالتين، فإن المواطن هو الضحية، و”الكرامة” التي رُفعت شعارًا للحرب قد تتحوّل إلى مجرد عنوان ساخر لحقبة من الفوضى المنظمة.

=‫=======‬

“كرامة”.. حل المليشيات أم إعادة إنتاجها؟

منذ اللحظات الأولى لاشتعال الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع في الخرطوم، منتصف أبريل 2023، خرج قائد مليشيا “البراوؤن” ــ المرتبطة ببعض مكونات النظام البائد ــ مبشرًا بنهاية الدعم السريع، واعدًا برفع “التمام” للقائد العام خلال ست ساعات فقط.

لكن، وبعد أكثر من عامين على الحرب، لا تزال الحقيقة مغايرة تمامًا. إذ ما تزال المليشيات تتكاثر بشكل شبه يومي، كأنما الحرب السودانية تلد مع كل صباح مليشيا جديدة، يعيد فيها التاريخ إنتاج مآسيه على حساب أرواح وممتلكات المواطنين.

في مشهد يجسد هذا العبث، كتب شخص يُدعى يس الطيب البشير، على صفحته بموقع “فيسبوك”، معرفًا نفسه كقائد لـ”حركة شجعان بحر أبيض”، معلنًا فتح باب التجنيد والتدريب للحركة، داعيًا المهتمين للتواصل معه “في الخاص” لمعرفة مكان المعسكر، ومبشرًا بتسليم “النمرة العسكرية” عقب 45 يومًا من التدريب. مشهد يبدو هزليًا للوهلة الأولى، لكنه واقعي تمامًا في سودان ما بعد الحرب، حيث المليشيات لم تعد استثناء بل قاعدة.

 تفريخ المليشيات

  يزيد من مرارة الواقع أن الحرب، التي وصفت في بدايتها بأنها “حرب كرامة” هدفها المعلن حل مليشيا الدعم السريع واستعادة هيبة الدولة، انتهت إلى إنتاج عشرات المليشيات الجديدة.

 كان شعار “حل المليشيات” أحد شعارات ثورة ديسمبر، وتبنته القوى المدنية لبناء جيش وطني واحد يمهد الطريق لتحول ديمقراطي حقيقي. لكن ما يحدث اليوم، بعد دخول الحرب عامها الثالث، يعكس انقلابًا تامًا في هذا المسار.

فالساحة السودانية باتت تعج بمليشيات مسلحة، صنعت لمواجهة الدعم السريع، وتغذت على ذات البيئة السياسية التي أنجبت “الدعم” نفسه قبل سنوات، حين استُخدم ضد الحركات المسلحة. اليوم لا يكاد يخلو إقليم سوداني من وجود مليشيا مناطقية أو قبلية، حتى شرق السودان ـ الذي ظل أقل اشتعالًا، يقف الآن على فوهة بركان قابل للانفجار في أي لحظة.

حميدتي.. النموذج يتكرر

بعيدًا عن الجدل حول “الحاضنة” التي تفرّخ هذه الكيانات، ثمة من يرى أن نشوء بعضها يعود إلى دوافع موضوعية. فالمناطق التي استباحتها قوات الدعم السريع، خاصة في الجزيرة وسنار، شهدت تشكيل مليشيات مناطقية بدافع “الغبينة” والانتقام الشخصي، في ظل غياب الجيش وفشله في توفير الحماية.

 وفي المقابل، هناك مجموعات تستنسخ تجربة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، الذي صعد من قيادة مليشيا قبلية إلى مراكز النفوذ والثروة، مدفوعًا بالبندقية لا بالكفاءة. تحاول هذه الجماعات اليوم محاكاة المسار ذاته: بناء مليشيا، تأمين حضور قبلي، ثم المطالبة بنصيب في السلطة. وقد أعلنت بالفعل مليشيات مثل “درع السودان”، و”البراؤون”، و”الكتائب الثورية” عن مشاركتها في حكومة رئيس الوزراء كامل إدريس، رغم أن أغلبها لم يأتِ من صناديق الانتخابات بل من فوهة البندقية.

البندقية تمنح الشرعية

الحرب التي اندلعت لحل مليشيا واحدة، تحولت إلى مسرح لانفلات المليشيات، لأن “الملشنة” أصبحت أقصر الطرق إلى السلطة. الصراع بين الجيش والدعم السريع لم يكن معركة لبناء جيش وطني، بل صراعًا على السلطة بوسائل عنيفة.

وكما أن الدعم السريع تحوّل من مليشيا إلى قوة تفاوضت على موقعها السياسي، فإن المليشيات الجديدة ترى في نفسها ذات الحق.

تجربة “حركات جوبا” التي وضعت سلاحها في خدمة السلطة مقابل وزارات وثروات، شجعت عشرات الجماعات على سلوك ذات الطريق. أصبح السلاح وسيلة للحصول على الأموال والمناصب، ودرعًا يحمي من القانون في ظل غياب مؤسسات عدلية مستقلة. الصراعات بين الجيش والحركات المسلحة حول وزارات مثل المالية والمعادن، تقدم نموذجًا صارخًا على هذا الواقع.

  الدولة في مهب الفوضى

في ود مدني، عريس يقضي ليلة زفافه في الحبس بسبب إطلاق نار في حفل الزفاف. وفي مدينة “الدبة” بالشمالية، دارت معركة ضارية بين مجموعتين قبيلتين، استخدم فيها السلاح الثقيل والخفيف.

وفي الولاية ذاتها، تنتشر شكاوى عن “مليشيا أولاد قمري”، التي تضم مجرمين سابقين، وتبث الرعب وسط المدنيين، خاصة مع ارتباطها بقيادات عسكرية وأجهزة استخبارات.

وما يزيد المشهد عبثًا، أن عناصر من الدعم السريع تحولوا إلى “درع السودان”، مغيرين زيهم فقط، دون أن يغادروا ذات النهج، ويمارسون القمع باسم الجيش هذه المرة.

في سودان المليشيات، يمكنك أن تعتقل وتقتل وتختفي، دون مساءلة، لأن الجندي هو القاضي والجلاد معًا.

 هل من حل؟

المفارقة القاتلة أن الدولة، التي تطالب بتصنيف الدعم السريع كمليشيا متمردة، تشرف في الوقت ذاته على تشكيل مليشيات جديدة.

يخرج سياسيون دون خجل ليعلنوا عن تدريب 50 ألف شاب من الشمالية في إرتريا، دون أي اعتراض رسمي. الأخطر أن المليشيات اليوم ليست فقط قبلية أو جهوية، بل أيديولوجية أيضًا.

ويحذر مراقبون، من بينهم المحللة المصرية أماني الطويل، من خطورة هذه المسارات، مؤكدة أن أي حل يجب أن يبدأ بتحرر الجيش نفسه من المليشيات المرتبطة بالحركة الإسلامية، باعتبارها الراعية الأولى لتفريخ الفوضى في السودان.

 الدولة أو اللا دولة

السودان اليوم يقف على مفترق طرق: إما دولة تحكمها مؤسسات، أو لا دولة تحكمها المليشيات. وبين هذا وذاك، يضيع المواطن، وتهدَر الكرامة التي كانت شعار الحرب.

فهل ستبقى “الكرامة” مجرد اسم لحرب أعادت إنتاج المليشيات بدلًا من تفكيكها؟ أم يمكن بعد كل هذا الخراب، أن تنبت بذرة الدولة من ركام البندقية؟

 

تعليق واحد

  1. الحمداللة السودان انتهت علي يد الشمالين فقط نشكر الرب علي ذلك .الامتيازات والاكرمات الذي كان يحصلون عليها باسم القومية لقد انتهت ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..