ورحل مكي صوت التراثٍ والمقاومة!

عوض كفي
لم تكن ليلة البارحة في جميع مدن وقرى وفرقان ونجوع منطقتنا النوبية،وأي بقعة في المعمورة يوجد فيها نوبي، لم تكن ليلة عادية ، بل كانت استثنائية بكل ما تحمل الكلمة من معنى ، حيث توشحَّت تلكم الأرجاء بالسواد، وامتلأت مآقي الجميع بالدموع،و خيَّم الحزن في القلوب ،وذلك عندما نعى الناعي قيثارة الفن والأدب النوبي الفنان، الرسام الباحث في التراث النوبي ،ومؤلف قاموس المفردات النوبية
الاستاذ القامة/ مكي علي ادريس بلال
والذي فاضت روحه عند الثامنة مساءً بمستشفى الشرطة بمدينة دنقلا اثر علة لم تمهله طويلاً .
أبصر الراحل النور في الولاية الشمالية، محلية حلفا ،مدينة عبري في أقصى الشمال السوداني النوبي في منتصف أربعينيات القرن الماضي، عمل بالتدريس ردحاً من الزمن ، ولكن موهبته الفنية التي ظهرت بوادرها فيه منذ نعومة أظافره سحبته بعيداً عن عالم الطبشور، فالتحق بمعهد الموسيقى والمسرح ، وتخرج منها عازفاً وموسيقياً لا يشق له غبار.
اغترب الى العربية السعودية ومكث بها عقود طويلة ، وطاف خلالها كافة دول الخليج العربي تارةً يلقي محاضراته وسط النوبيين في محافلهم وتجمعاتهم عن التراث النوبي ،وتاريخ النوبة الضاربة في عمق الحضارة ،وتارةً اخرى يطربهم باعذب الالحان، ويقرأ لهم أشعاره النوبية.
ولإرتباطه الوثيق بالارض النوبية قرر العودة الطوعية للاستقرار بمراتع صباه بمدينة عبري ، وعاد اليها قبل أقل من عام وكان استقباله عند العودة مشهداً مهيباً كما كان وداعه الاخير نفس المهابة ،ولكن شتان ما بين المشهدين.
نعم هكذا بقلوب يعتصرها الأسى والحزن، ودّعت الساحة الثقافية والفنية ليلة البارحة أحد أعمدتها البارزين، الفنان والباحث في التراث النوبي مكي علي إدريس، الذي انتقل إلى جوار ربه بعد مسيرة حافلة بالعطاء والإبداع، قضاها في خدمة الثقافة والتراث النوبي والذود عنه بالكلمة واللحن والموقف.
يا سادتي ويا سيداتي لم يكن مكي علي إدريس مجرد فنان، بل كان موسوعة نابضة بالحياة، يحمل على كتفيه هموم أمته النوبية، ويجسِّد بوعيه وموسيقاه وأدبه روح الإنسان النوبي الذي يقاوم التهميش والاندثار. تخرج في معهد الموسيقى والمسرح، ليجمع بين التكوين الأكاديمي والانتماء العميق للهوية النوبية، وهو ما شكّل ملامح تجربته الفنية والفكرية الفريدة.
لم يكن عمله في سلك التدريس وظيفة يسترزق بها بل كانت رسالة، ينقل من خلالها للأجيال معاني الفن النبيل وقيم الثقافة الجذرية. وقدكانت قضاياه دائماً مرتبطة بالواقع النوبي، لا سيما قضية سد كجبار، التي وقف في وجهها بشعره وأغانيه وملاحمه، مجسداً موقف المثقف العضوي المقاوم.
ومن أبرز أعماله “ملحمة كجبار”، تلك القصيدة الغنائية التي اختزلت الألم النوبي ومأساة التهجير المحتملة، وغدت نشيداً شعبياً لكل من وقفوا ضد إقامة السدود على أرض النوبة. وقد اذاق الأمرين في سجون الانقاذ بعد ادائه ملحمة كجبار .
أبدع مكي في تقديم الغناء النوبي في قالب حديث محافظ على أصالته. فكانت أغنية “عديلة” التي انطلقت ملئ الحناجر في العام (1973) أغنية تجاوزت حدود اللغة، فردّدها حتى غير الناطقين بالنوبية، وانتشرت حتى في صفوف الجيش ضمن الأغاني الحماسية. هذه الأغنية وحدها تكفي لتخليد اسمه في ذاكرة الغناء السوداني والنوبي.
كتب وغنى للتراث، لم ينسَ طقوس الحصاد، ولا أعراس النوبة، فكان صوته مرآةً لذاكرةٍ جماعيةٍ تسير نحو الغياب، لولا أمثاله.
لقد حمل مكي في فنه وأدبه ملامح القرية، وأصالة النخيل، وعذوبة النيل، وعناد الأرض التي لا تنسى أبناءها. ورغم قلة التوثيق، إلا أن أعماله المنتشرة بين الناس تمثل كنزاً ثقافياً يجب جمعه وحفظه للأجيال القادمة.
كان للراحل بجانب موهبة فنه الغنائي وشعره المسموع، ريشة ناطقة فكان رساماً وخطاطاً، تزين لوحاته جدران العديد من المرافق بعبري وبالعربية السعودية .
رحل مكي علي إدريس بجسده، لكن صوته باقٍ في وجدان كل نوبي وكل عاشق للتراث. باقٍ في أغانيه، في كلماته، في مقاومته النبيلة، في نبض الأرض التي أحبها بصدق ونقاوة.
وداعاً مكي… طبت حيّاً وميتاً، ونسأل الله أن يجعل ما قدمته في ميزان حسناتك، وأن يسكنك فسيح جناته.