ليلى أبو العلا: أغاني المترجمة ومآذنها

في كتابه الهامّ «اللقاء الأنغلو ـ عربي: الأدب القصصي والسيرة الذاتية لكتّاب عرب بالإنكليزية»، منشورات بيتر لانغ العالمية، 2007، يتناول الناقد والأكاديمي البريطاني جفري ناش أعمال أهداف سويف، جمال محجوب، طوني حنانيا، فاديا فقير، وليلى أبو العلا؛ من مصر والأردن ولبنان وفلسطين والسودان، ممّن «اتخذوا قرار إدراج الشؤون والموضوعات العربية في اللغة الإنكليزية».
وفصول الكتاب الستة، فضلاً عن مقدمة وخاتمة، تنطلق من وجود «فارق كيفيّ» بين الأدب العربي، والأدب العربي المترجم إلى اللغة الإنكليزية، وأدب يتمّ تصوّره وتنفيذه بالإنكليزية من جانب كتّاب ذوي خلفية عربية. وعنوان الكتاب الرئيس، اللقاء الأنغلو ـ عربي، مستمدّ من إدوارد سعيد، واستوجب من ناش أن يأخذ بعين الاعتبار تأثيرات تأسيسية على الآداب العالمية المعاصرة: ما بعد الاستعمار، إذن، وتنظيرات هذا التيار حول العلاقات التبادل الثقافي، والإحالة إلى عواقب الاستعمار والإمبريالية على آداب الغرب؛ وصولاً بالتالي إلى «عولمة الآداب»، حيث تتجلى المؤثرات على إنتاج الكتابة المتوجهة إلى أسواق عالمية. وفي هذه الحال، يتابع ناش، تكون «نسويات» عربية/ إسلامية (وتأثيرات غربية تدخلت في صياغاتها) بمثابة مداخل إلى جمهورٍ قارئ غير عربي/ إسلامي.
وهذه السطور تعود اليوم إلى كتاب ناش في مناسبة فوز ليلى أبو العلا، الروائية والقاصة سودانية الأصل، بجائزة «بين/ بنتر» للكتابة عن الهجرة والمعتقد، هذه السنة؛ حيث خصص لها الفصل الخامس من كتابه، وأقام سلسلة روابط بين أعمالها وقطبَيْ الإسلام وسيرورات العولمة. والإنصاف، النقدي والأكاديمي، يقتضي التنويه إلى أنّ ناش كتب ذلك الفصل حين لم تكن أبو العلا قد أصدرت سوى روايتين ومجموعة قصصية واحدة؛ لكنّ مؤلفاتها اليوم بلغت 10 أعمال بين رواية وقصة قصيرة ومسرحية. صحيح، في المقابل، أنه تناول روايتها الأولى «المترجمة»، 1999، التي يتفق كثيرون، وهذه السطور أيضاً، أنها الأفضل حتى الساعة (نقلها إلى العربية الخاتم عدلان وصدرت عن دار الساقي في سنة 2003، كما أدرجتها صحيفة «نيويورك تايمز» ضمن لائحة أفضل 100 كتاب خلال سنة صدورها).
فضيلة ذلك التثمين المبكر أنه لا يُخضع خيارات أبو العلا إلى كليشيهات تنميطية، استشراقية واستعمارية بالضرورة، حول حقيقة كبرى مركزية اكتنفت إقامة الطالبة السودانية في بريطانيا لمتابعة دراساتها العليا في الاقتصاد والإحصاء: أنّ حوافز كتابتها الإبداعية تأثرت منذ البدء بشبكة من أنساق التوازي أو التضادّ أو التفاعل، أو هذه مجتمعة، بين معتقدها الإسلامي وتراثها الوطني السوداني من جهة، والثقافة والآداب البريطانية في طبعاتها المعولَمة والغربية من جهة ثانية. الأمر الذي، كما لاحظ ناش على نحو ثاقب وموضوعي، شجعها على «توليف» هوية جديدة: امرأة مسلمة/ عربية/ أفريقية.
وبكتب ناش: «الواقع أنّ كتابة أبو العلا حساسة ثقافياً بالمعنى الأقصى، وتُفصح أكثر مما يقول الإلمام السطحي بالقضايا ما بعد الاستعمارية. غير أنّ التقاطع بين الشيفرات والأشكال الغربية، وبين خيارها لنقطة مرجعية مسلمة لا محيد عنها، يموضع عملها في مكان مختلف» مميز تماماً. وأيضاً: «التراث والإثنية ليسا مستبعدَين، ولكنهما يُصنّفان في معتقد تقوي هو في آن معاً غير تبريري وكوني في عنوانه، جذري ومحدد في جداله مع الحداثة الغربية». وأياً كان اتفاق المرء أو اختلافه مع خلاصات كهذه، فإنّ إصرار ناش على النأي بمنهجياته بعيداً عن أحابيل الاستشراق، وعن إغراءاته الإثنو ـ ثقافية خصوصاً، يجنّبه الكثير من المزالق والعثرات.
اليوم، في المقابل، لقارئ أبو العلا أن يتلمس بوضوح أكثر تلك المناخات التعددية، المستنيرة والحداثية كما يصحّ القول، التي اهتدت بها في كتابة أعمال روائية لاحقة؛ على شاكلة «مئذنة»، 2005؛ و»زقاق قصائد الأغاني» 2011؛ و»المتحف» 2013؛ و»روح النهر» 2023. الموضوعات هنا لا تعيد إحياء مآزق التثاقف وعسر الاندماج وقصص الحبّ متعدد الهويات، وتواريخ الاجتياح الاستعماري للسودان، فحسب؛ بل تقترح على اللغة الإنكليزية قسطاً وافراً من خصوصية المعجم والجملة والإيقاع كما تلقّحت باللغات الأمّ، وكما يفعل أمثال ج. م. كويتزي وبن أوكري وسلمان رشدي وألي سميث…
وكثيرة هي العناصر التي تنبهت إليها لجنة تحكيم جائزة «بين/ بنتر» عند اختيار أبو العلا هذا العام، فامتدحت «منظوراتها الفارقة والغنية حول موضوعات حيوية في عالمنا المعاصر: المعتقد، الهجرة، والاقتلاع من الأرض»، واعتبرت كتابتها «بلسماً، ملاذاً، ومصدر إلهام». ردّ أبو العلا جاء هكذا، عندما بلغها نبأ الجائزة: «بالنسبة إلى واحدة مثلي، مهاجرة سودانية تكتب من منظور ديني يختبر حدود التسامح العلماني، هذا الاعتراف يُشعرني بمغزى حقيقي؛ إنه يسبغ الاتساع والعمق على معنى حرية التعبير وأيّ الحكايات يجب أن تُسمع».
وبين مئذنة في ريجنت بارك، لندن، حيث حجاب السودانية نجوى ينقلب إلى هوية أو عتبة تحوّل؛ وزقاق في الخرطوم يشهد الشعر والأغاني واحتقان الحداثة ويفضي إلى القاهرة الكوزموبوليتية ولندن المتروبول الاستعماري؛ وسمر في إبردين، حيث الأمّ السودانية عاشقة ومترجمة ومتصارعة مع هوية الحبّ… لم تتوقف أبو العلا عن رفد شخصياتها بكلّ ما يجعلها حيّة وحيوية وإنسانية، على أكثر من محكّ جدلي ثقافي ويقيني وهوياتي، وصولاً إلى برهات شتى من امتزاج صلابة المقاومة واغتناء الوجود.
صبحي حديدي
القدس العربي



