تأملات في محنة الدولة السودانية العلمانية ليست وصفة جاهزة

د. الهادي عبدالله أبوضفائر
الأفكار الكبرى لا تولد من فراغ، والمفاهيم الجذرية لا تنبت في أرضٍ عقيمة، بل تنشأ استجابةً لتوترٍ تاريخي، أو معاناةٍ ممتدة، أو من مأزقٍ فكري واجتماعي لم تعد أدوات الماضي قادرة على تفسيره أو تجاوزه. من هذا الباب، نشأت العلمانية في أوروبا لا كترفٍ فلسفي، ولا كتمرد وجودي ضد الدين، بل كضرورة تاريخية فرضتها التحولات العنيفة التي مزقت العلاقة بين الإنسان والمؤسسة، بين العقل والنص، بين الحرية والوصاية.
في أوروبا القرون الوسطى حين تسلّمت الكنيسة الكاثوليكية مقاليد الروح والعقل، وتحوّلت من مرجعية روحية إلى سلطة دنيوية شاملة. كانت تمنح الملوك شرعيتهم، وتملك الأرض، وتُصدر الأحكام، وتراقب الفكر، وتمنع نشر الكتب، وتُحاكم العلماء. اختلطت العناية الإلهية بالمصلحة السياسية، فأصبحت الحقيقة محتكرة، وكل صوت مخالف يُدان باسم الإيمان. لكن العقل الأوروبي لم يكن لينام طويلاً. فعصر النهضة، وما تبعه من الثورة العلمية، أطلقا شرارة الشك، وسحب السلطة من يد اللاهوت. ثم جاء الإصلاح الديني، بقيادة لوثر وكالفن، ليعلن بداية النهاية لاحتكار الكنيسة، ويزرع بذور الفردانية الدينية، والحرية الروحية، التي لا تحتاج إلى وسيط. ومع ذلك، لم يكن هذا كافياً. ففي القرن السابع عشر، مزّقت الحروب الدينية أوروبا، ونشرت الدم باسم الطائفة، والقتل باسم العقيدة، فأدرك العقل الجمعي أن الخلاص لا يكون بتغليب مذهب على آخر، بل بإخراج الدين من ساحة الصراع السياسي، وتأسيس دولة تقف على مسافة واحدة من الجميع.
من هنا، نشأت العلمانية في أوروبا كحلٍ سياسي واجتماعي، لا كعداء للدين. ولكن لأن كل مجتمع يواجه مشاكله الخاصة، فقد جاءت العلمانية بوجوه متعددة. ففي فرنسا، كانت استجابةً مباشرة لهيمنة الكنيسة وتحالفها مع الملكية، فاختارت أن تفصل الدين عن المجال العام تماماً، وأقامت جداراً صلداً بين الدولة والمقدس. أما بريطانيا، التي شهدت إصلاحاً دينياً مبكراً، فآثرت توازناً أكثر نعومة، يسمح ببقاء الكنيسة الأنجليكانية رمزياً، دون أن تتحكم في القرار السياسي. أما الولايات المتحدة، فقد قامت منذ تأسيسها على مبدأ الحرية الدينية، ومنعت تدخل الدولة في الشأن الديني، لكنها لم تمنع التدين، بل ضمنته في المجال الخاص كحق مصون. وفي تركيا علمانية جذرية فرضها كمال أتاتورك بقوة الدولة لإلغاء الخلافة العثمانية وتحويل تركيا لدولة حديثة، وفي الهند علمانية تعددية تعايشي تقوم على الاعتراف بالتعدد الديني والثقافي، دون فرض دين الدولة، وتحمي الأقليات. لم تكن هناك علمانية واحدة، بل علمانيات متعددة، تشبه المجتمعات التي وُلدت فيها، وتعالج عللها الخاصة. فهي ليست نموذجاً جاهزاً يؤخذ كما هو، بل دواء يُركّب حسب المرض، وسياقاً يُفهم في ضوء التاريخ.
في السياق السوداني، لا يمكننا استيراد العلمانية كمنتجٍ مكتمل من متجر الأفكار الغربية، ولا يمكننا رفضها بوصفها مشروعاً استعمارياً أو كفراً صريحاً، كما يدّعي بعض الخطاب الديني المحافظ. إنّ السؤال ليس هل نقبل بالعلمانية أو نرفضها؟، بل: ما هو شكل العلاقة العادلة بين الدين والدولة في مجتمع متعدد؟ لقد عرف السودان فصولاً من توظيف الدين في الصراع السياسي، سواء في عهد النميري حين فُرضت قوانين سبتمبر، أو في عهد الإنقاذ الذي استُخدم الدين كأداة للشرعية والقمع. وما جنينا من ذلك سوى تمزيق النسيج الوطني، وتأجيج الحرب، وتكفير المعارض، وتخدير الوعي باسم القداسة. من هنا، يبدو أن الحاجة ليست إلى علمانية فرنسية أو تركية أو أمريكية، بل إلى حلول سودانية، محلية الجذور، تأخذ من العلمانية جوهرها لا مظهرها، وتفصل بين السلطة والمقدّس دون أن تصادر حق الناس في التدين، وتؤسس لدولة محايدة لا تفرض ديناً، ولا تحظر ديناً، بل تحمي الجميع.
نريد دولة قيمية، في جوهرها، ليست خصماً للدين، بل حامياً له من التسييس، وحامياً للدولة من التقديس. وضماناً للتعدّد، وصوناً للحريات، ومنعاً لاحتكار الإيمان أو توظيفه في مشروع سلطوي. والسودان، بتعدده العرقي والديني والثقافي، لا يحتمل دولة دينية تُقصي جزءاً من شعبه، ولا دولة قمعية تُخضع الدين والناس تحت اوامره، ولا دولة علمانية بمفهوم خارج السياق السوداني بل يحتاج إلى مشروع وطني، يتجاوز ثنائيات الماضي، ويطرح بجرأة سؤال الدولة المحايدة، دولة القانون، التي يكون فيها الانتماء للمواطنة.
الدولة القيمية، تقوم علي ثلاث أضلاع (القيم الإنسانية والكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان) تدعو إلى تحرير المقدَّس من شهوةِ السلطة، وتحرير السلطة من وَهْمِ القداسة، لكي يظلَّ كلٌّ منهما في مقامه، فلا يطغى نهرُ الإيمان على ضفاف الدولة، ولا تجفُّ ينابيعُ الروح تحت شمس السياسة. كما لا تُفرض بمرسوم، ولا تُفهم من خلال الشعارات، بل تُبنى كتجربة فكرية وسياسية، تُصاغ من عمق المجتمع، لا فوقه. وقد آن لنا، لا سيّما في أوساط النخب السودانية، أن نعيد طرح هذا السؤال المؤجل بعين البصيرة لا بعين الريبة، لا بوصفه ترفاً فكرياً مستورداً، بل كضرورةٍ وجودية تمليها تعقيدات الواقع وتشوّهات التاريخ. فنحنُ لا نبحث عن صيغة تصدمُ مجتمعاً مسكوناً بالدين كما تُمسِك النارُ بجذوة الروح، بل عن صيغةٍ تتماهى مع حساسيته، وتحفظُ له إيمانه، وتقيه في ذات الوقت من أن يُستَخدم الإيمان سلّماً إلى الاستبداد. نحنُ نريد نموذجاً يوسّعُ مفهوم الدولة ليحتوي الجميع، لا ليفرض قناعاً على أحد، ويحمي المعتقد دون أن يسلمه إلى الطاغية باسم القداسة.
[email protected]




اذا كنت تتحدث عن دولة ومجتمع السودان كدولة ومجتمع متعدد دينيا لا يحق لهما إتباع تعليمات وتشريعات دين معين من تلك الأديان المتعددة (متزاحمة ومتقاربة الأوزان) والتي تعرفها ولا نعرفها..
فالحل في ضوء المناهج البلاد والمجتمعات (الديمقراطية) التي تعيش فيها وتنعم بحلولها سهل وميسور، وهو قطعا ليس في فرض العلمانية من الأقلية العلمانية على الأعلبيات المتدينة المتطلعة الى تحاكمها الى شرائع دينها التي لا تحرم السياسة وإنما دينها سياستها وسياستها دينها.
الحل في هذه الحالة من النزاع يكمن، وفقا للتجارب الغربية نفسها، في الإحتكام الى الديمقراطية بأن يقدم كل صاحب فكر او دين او عقيدة او ايديولوجيا برنامجه في الحكم الى الشعب فيقدم معتقدو الدين العلماني برنامجهم الديني العلماني الذي يقف على مسافة واحدة من جميع الأديان (المدعاة التعدد) ويمنع إستصحابها في التشريع والسياسة والحكم.
ويقدم غيرهم من اهل الأديان الأخرى بما فيها أهل الأديان الذين يعتقدون (أن دينهم سياستهم وسياستهم دينهم) ولا يصح عندهم دينهم من غير إعماله في جميع شؤونهم الدنيوية كما الأخروية {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين}.
ويتنافس الجميع إنتخابيا ويتركوا المجتمع المتعدد يختار البرامج الذي يريده عبر صندوق الإنتخابات وليس عبر السفارات والإستقواء بدول الإسلاموفوبيا الغربية ولا بدول الإخوانوفوبيا الإقليمية.
وبالطبع الجميع يعرف الفرق بين الدولة والمجتمعات المحتكمة الى تشريعات دينها المنصوص عليها ومعروفة للكافة مسبقا، وبين دولة القداسة المدعية أنها مفوضة من الله لتحكم بما تشاء وما يعن لها في أي وقت وحين كما أنها الله ذاته.
أهل الدين العلماني يقدموا دينهم العلماني الذي يقف على مسافة واحدة من جميع الأديان الى الشعب..
واهل الدين غير العلماني يقدموا دينهم الذي يحتكم فيه الناس الى دينهم في كل شأنهم الى الشعب..
والحشاش يملأ شبكته..
هذه هي الديمقراطية التي تعيشون في ظلالها يا د. ابو ضفيرة، أليس كذلك؟
ولكن البعض يريد (أن لا نرى إلا ما يرى) على الطريقة الفرعونية!!
ولا ننسى أن نبارك لكم الدكتوراة التي حصلتم عليها في بريطانيا.