مقالات وآراء

الدكتور كامل إدريس، وجهة مدنية فارغة لفشل متواصل

علاء خيراوي

منذ الإعلان عن تعيين الدكتور كامل إدريس رئيسًا للوزراء في ما يعرف “بحكومة بورتسودان”، بدا المشهد أقرب إلى تمثيل سياسي متقن الإخراج منه إلى انتقال فعلي نحو الحكم المدني. رجلٌ ذو خلفية دبلوماسية دولية مرموقة، خدم في منظمات الأمم المتحدة وتقلد مناصب وُصفت في السابق بالرفيعة، يُستدعى في لحظة حرجة من تاريخ السودان ليكون غلافًا مدنيًا لسلطة عسكرية تتراجع داخليًا وتتآكل خارجيًا. لكنّ المعضلة لم تكن في اختيار الاسم، بل في غياب الفعل، وانعدام التأثير، وتواطؤ الصورة مع واقع عسكري لا يزال يحكم قبضته، ويوظف واجهاته المدنية في تسويق أوهام لا تصمد أمام أول اختبار

منذ ذلك اليوم، لم يُسجّل لكمال إدريس أي فعل تنفيذي جاد. لم تتشكل حكومة، ولم تُطرح رؤية، ولم يخرج للناس برنامج واضح، بل ظلّت السلطة الفعلية بيد الفريق اول عبد الفتاح البرهان وأجهزته الأمنية. حتى الوعود التي أطلقها إدريس عند تعيينه بشأن وقف الحرب وتحقيق المصالحة، تبخّرت أمام صمت مُربك وعجز معلن. وبدا أن الرجل، رغم ثقافته واتزانه، واقع في قبضة مؤسسة لا تعبأ كثيرًا بفكرة الدولة المدنية، ولا ترى في وجوده سوى بطاقة عبور نحو المنابر الدولية

وفي حين استمرت الحرب في التمدد، تصاعدت وتيرة الانفلات الأمني في مناطق عديدة، وظلت قوات الدعم السريع تكرّس لسلطة موازية، كما ظهر في اتفاق فبراير ٢٠٢٥، الذي جمع حركات مسلحة تحت مظلة سياسية منافسة لحكومة بورتسودان، في سابقة تؤكد تفكك السلطة المركزية وفقدانها للهيبة والمشروعية. لم يصدر عن إدريس أي موقف واضح تجاه هذه التطورات، ولم يحرك ساكنًا في مسار التفاوض أو الحلحلة، مما زاد من حدة الفجوة بين الواقع الميداني والخطاب السياسي المُعلن

أما على الصعيد الاقتصادي، فقد عمّقت الشهور الأخيرة من الانكماش مشهد الانهيار. السودان، الذي فقد أكثر من ٤٠٪ من ناتجه المحلي خلال عام ٢٠٢٣، اتجه في ٢٠٢٤ و٢٠٢٥ إلى انكماش إضافي بنحو ٢٨٪، (تقارير البنك الدولي وصندوق النقد الدولي) دون أن تعلن الحكومة الجديدة عن أي موازنة عامة، أو حتى مبادرة اقتصادية واحدة. في ظل هذا الغياب الكامل للتخطيط، استمرت العملة الوطنية في الانحدار، وبقي الفساد جاثمًا على صدر المؤسسات، حيث حافظ السودان على تصنيفه السيئ في مؤشر الشفافية الدولية، بحلول متأخرة تكشف عمق المأزق الأخلاقي والإداري (تقارير منظمة الشفافية الدولية)

وإذا كان البُعد الإنساني هو أكثر ما يُفترض أن يشغل أي حكومة مسؤولة، فإن حكومة إدريس لم تكن حتى بمستوى إطلاق نداء. أكثر من ١٢ مليون نازح، وملايين اللاجئين ( تقارير مفوضية الامم المتحدة لشؤون اللاجئين)، وانهيار شبه كامل في المنظومة الصحية، وموجات جديدة من الكوليرا والمجاعة، كلها لم تقابل بخطة أو خطاب أو حتى اعتراف من الرجل الذي يُفترض أنه يمثّل رأس الجهاز التنفيذي. لقد بدا صوته غائبًا في لحظة كان الناس فيها بأمسّ الحاجة إلى كلمة مسؤولة.

كل ما وعد به إدريس، من إحلال السلام عن طريق الحسم العسكري، إلى الإصلاح الاقتصادي والإنساني، انقلب إلى لائحة طويلة من الإخفاقات. لم يكن أكثر من قناع يُعلّق على وجه السلطة العسكرية لإضفاء شيء من التوازن الكاذب. ولأن الحقائق لا تخضع للتزييف طويلًا، فإن تزايد النزوح الجماعي، وامتداد المجاعة، وتدهور الأوضاع في كل أقاليم السودان، شكّل شهادة واضحة على أن هذه الحكومة لم تكن تملك من أدوات الإنجاز شيئًا، وأن رئيسها، مهما حَسُنت نيّته، لم يُمنح من السلطة ما يمكّنه من إحداث أثر.

إن تجربة كامل إدريس السياسية، وإن لم تنتهِ رسميًا، إلا أنها أخلاقيًا قد فشلت قبل أن تبدأ. فحين يُستدعى رجلٌ بحجم إدريس ليكون شاهدًا على استمرار الحرب لا مفاوضًا لإيقافها، ولتجميل صورة حكم لا يؤمن بالمدنية أصلًا، فإن التاريخ لا يغفر ذلك. لقد تحوّل من دبلوماسي عالمي إلى واجهة فارغة لنظام منهك، ومن حامل وعود إلى شريك في صمتٍ مريب، يطيل عمر المأساة ويؤخر حلم الخلاص

[email protected]

تعليق واحد

  1. حتى الوعود التي أطلقها إدريس عند تعيينه بشأن وقف الحرب وتحقيق المصالحة، تبخّرت أمام صمت مُربك وعجز معلن. وبدا أن الرجل، رغم ثقافته واتزانه، واقع في قبضة مؤسسة لا تعبأ كثيرًا بفكرة الدولة المدنية، ولا ترى في وجوده سوى بطاقة عبور نحو المنابر الدولية

    وفي حين استمرت الحرب في التمدد، تص

    متي حدث ذلك في اتصال معك خاص الراجل او كلمة قالها بلسان الكيزان والبرهان القضاء علي التمرد ولم يقول القضاء علي الحرب اطلاقا.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..