ازمة الاندماج وبناء الهوية

الكورباج
عبدالرحيم محمد سليمان
وفدت الى الشرق والغرب من دول الجوار ومن اعماق الصحراء ومن غرب افريقيا قبائل تبدو فى ظاهرها مثالا للتنوع الثقافي والاجتماعي ، لكن فى باطنها تشكل خصما للوحدة والتماسك الوطني، لاسباب جوهرية عديدة اهمها طبيعة هذه القبائل ذاتها، فقد كانت منبوذة فى بلدانها ، تعاني من عزلة وجدانية وروحية عن شعوبها الاصلية، تعيش على هامش التكوين الوطني، متقوقعة على نفسها، متشككة في غيرها، وعاجزة عن بناء جسور الثقة مع مكوناتها الاصلية، فحين قررت الهجرة الى ارض السودان، لم تكن هجراتها طواعية كانت بسبب المجاعات والحروب ، لذلك لم تحمل معها روحا تصالحية او نية للاندماج، بل نقلت معها انماطها الانعزالية، والشكوك المتبادلة، والاسوار النفسية التي بنتها فى اوطانها الاصلية، وللاسف الشديد لم يكن الواقع فى السودان كفيلا بكسر هذه الحواجز، فالسودانين لا يمتلكون التشريعات والقوانين التى تمكنهم من احتواء المهاجرين وفرض شروط الاندماج عليهم، فوجدت هذه القبائل نفسها في بيئة متسامحة الى درجة السذاجة، ففضلت الاستمرار فى معازلها مع تطوير انماطها القديمة التى تجعلها متوجسة ومتقوقعة ومتطرفة دون المساهمة بفاعلية فى رتق النسيج الوطني السوداني، فلم يكن هناك تفاعل ثقافي او اجتماعي حيوي من جانبها ، ولا تطور فى العادات والقيم ، بل على العكس ظلت تحتفظ بلهجاتها وموروثاتها وانماطها الاجتماعية المنفصلة، بل وفى احيان كثيرة تؤدي عزلتها للصراعات المحلية والاثنية نتيجة التنافس على الموارد والتمايز العرقي واصطفاف الهوية.
ان عجز التشريعات السودانية فى ايجاد طرح مسؤول فى التعامل مع هذه القبائل الوافدة، اضافة الى نقاط ضعف المواطن السوداني المتمثلة فى كرمه المفرط اتجاه كل وافد دون التدقيق فى نواياه وخلفياته، جعل البلاد بيئة مثالية لزرع هويات منفصلة تتحرك وتعيش خارج الرؤية الوطنية الجامعة، واصبحت بذلك كأنها “دول داخل الدولة”، لا تشارك الهم العام، ولا تدين بالولاء الا لقبيلتها الضيقة.
فالحديث عن وحدة البلاد يجب ان يبنى على وقائع حقيقية اهمها الاندماج الثقافي والاجتماعي ،لقد ان الاوان ان يعاد النظر بجدية فى السياسات الاجتماعية والثقافية تجاه كل القبائل ، لا بهدف الاقصاء، بل بهدف الاصلاح والدمج الحقيقي.
فالسودان الذي انهكته الانقسامات والنزاعات، لا يحتمل المزيد من الكيانات المنغلقة على ذاتها، يحتاج بحق وحقيقة الى هوية وطنية جامعة، تذيب الفوارق الاثنية والثقافية والجهوية، وتؤسس لتعايش حقيقي ينبع من روح الانتماء لا من المجاورة الخالية من المعنى الوطني ، فالوطن لا يمكن ان يتقدم في ظل كيانات ترفض التغير وتتمسك بعقلية القرون الوسطى متمنعه عن مواكبة العصر،