مقالات وآراء

لماذا ظل إنسان الفاشر يقاتل وحيدًا حتى اليوم؟

أحمد محمود كانِم

بادئ ذي بدء، لستُ من دعاة الحرب، ولم يحدث أن تقيأ قلمي بالتشجيع على استمرار العنف إطلاقًا، ولن يفعل.

لكن وددت فقط أن ألفت الانتباه إلى أزمة إنسانية ظلت منسية داخليًا وخارجيًا رغم فظاعتها وقساوة واقعها الذي لا يمكن تجاهله!
إنها مأساة إنسان مدينة الفاشر.

فهل تعلم – عزيزي القارئ – أن إنسانًا سودانيًا مثلي ومثلك، الآن، وأثناء كتابة هذا المقال، يكافح ليتعشى مع أطفاله بوجبة ”الأمباس”؟
و“الأمباس” -لمن لا يعرفها- هي مخلفات معاصر الزيوت التي تستخدم عادة كعلف للماشية…

*وهل تعلم أن التدوين العشوائي بالمدافع الثقيلة جداً، الذي كنتم تشاهدونه بشكل يومي في الخرطوم، لا يزال مستمراً، يتدفق على رؤوس المواطنين داخل مدينة الفاشر، التي ما برحت محاصرة من قبل الدعم السريع لأكثر من عام وشهرين؟
وهل تعلم أن سنّارة الجوع والهلع ما انفكت تصطاد الأطفال والمسنين كل يوم بأعداد يعجز العادون عن حصرها؛ في ظل توقف تام للخدمات الصحية والمياه؛ بجانب جشع غريب من قبل وكالات التحويلات المالية الذين وصل بهم الحال لخصم ٥٠٪ من جملة المبالغ التي يجود بها ذوو الأسر المحاصرة هناك مع انعدام شبه تام لما يمكن شراؤه من مواد غذائية؟
هذه مشاهد يومية في مدينة يباد أهلها على مرأى ومسمع من العالم، ولا أحد ينظر نحوها إلا على استحياء.

*ورغم كل هذا، ظلت الفاشر صامدة بإرادة أهلها؛ أبنائها وبناتها الذين صمدوا، ليس حباً في الجيش الذي كان قد سامهم -هو وجنجويده- سوء العذاب، فذبح أبناءهم وسحق كرامة نسائهم لأكثر من عقدين من الزمان… بل لأنهم عرفوا أن خيارهم الآخر هو الموت الجماعي، على طريقة ما حدث في الجنينة، حيث امتلأت الطرقات بجثث الأبرياء، واغتصبت العشرات من النساء -بحسب تقارير أممية- وشهادات الضحايا أنفسهن، أو دفنهم أحياء، كما وثقتها كاميرات الفاعلين أنفسهم.

* ورغم استبسال أهاليها وتصديهم لأكثر من 223 هجوماً حتى ظهر يوم الاثنين 21 يوليو – بحسب مصادر مطلعة -، لكن الفاشر لا تزال محاصرة، تتلقى الضربات من كل اتجاه، قصفاً بطائرات ومسيرات الجيش تارةً، وتدويناً بمدافع ومسيرات الدعم السريع تارات متتاليات… دون أن تجد صدى لصراخها في قاعات الأسرة الدولية أو حتى قاعات بورتسودان المكتظة ب”المرتاحين”.
والسبب في ذلك يعود إلى عقلية موروثة داخل المؤسسة العسكرية التي ترى السودان في شكل مختزل، يبدأ وينتهي في الخرطوم، وبعض أجزاء البلاد من الشمال والشرق والوسط.
أما دارفور، فغالباً ما تُعامل كأرض خارج التعريف “الوطني”، تصلح فقط لتكون ساحة معارك، لا تستحق التضحية أو حتى الاهتمام، إلا بقدر ما يلهي المتقاتلين عن التفكير في نقل العراك إلى خارجها.

* وما يعمق الجرح أكثر، هو ازدواجية المشاعر السودانية نفسها… فكم شاهدنا وسمعنا وقرأنا من القصائد والأغاني التي كتبت للحث على استعادة الخرطوم وود مدني وسنجة وجبل موية حينما كانت لا تزال في قبضة الدعم السريع!
لكن حينما يأتي الحديث عن الفاشر، لا نرى عنها شيئًا إلا على صفحات أبنائها الذين ما فتئوا ينادون وحدهم، يكتبون وحدهم، يدفنون شهداءهم وحدهم، وينتظرون الموت وحدهم.

*ينظر الطرفان إلى مصالحهما الاستراتيجية في السيطرة على تلك المدينة التاريخية… لكن هل سأل أيٌّ منكما نفسه: ما مصلحة المواطن في مصالحكم هذه طالما ثمن ذلك هو إبادته وأسرته؟
بل ما مدى أهمية المواطن -أصلًا- بالنسبة لكما؟
المواطن الذي يُقصف، يُجوَّع، يُنزَّح، ويُقتل ويُغتصب… ما ذنبه في كل هذه المآسي والأزمات التي تحيط به بفعل حماقتكما؟ ومِن أجل مَن تُقاتلون؟
ومن سيتبقى إذًا ليحكمه المنتصر؟
إن المصلحة الوحيدة التي لا أؤمن بغيرها، هي إيقاف القتال فورًا وفك الحصار الفوري عن مدينة الفاشر، وفتح المسارات لقوافل الإغاثة الدولية والسماح للناقلات التجارية بممارسة نشاطها… والسماح غير المشروط للمواطنين بالتنقل من وإلى المدينة، لأنهم لا ناقة لهم في ذلك ولا ورل!

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..