مقالات وآراء

‏(ما بين “موسوعة أثيوبيا” وكِتاب “الطبقات”)‏

د. محمد عبد الله الحسين

مقدمة:‏

يهدف هذا المقال إلى التعريف بموسوعة أثيوبيا مع مقارنة موجزة بينها وبين كتاب طبقات ود ‏ضيف الله. ‏

ينطلق المقال من حقيقة عامة وهي العلاقات المشتركة والمشتركات التاريخية والثقافية مع الجارة ‏أثيوبيا. كنت اعثر على ذلك من حين لأخر خلال قراءاتي أو أبحاثي في كثير من ‏الموضوعات المتشابكة والمتداخلة مع أثيوبيا. وكثيرا ما كان ذلك يقودني للتساؤل حول كثير ‏من الحقائق التاريخية خاصة المشتركة منها. لفت نظري دائما اهتمام أثيوبيا بالجدية والحزم ‏المطلوبين نحو تدوين تاريخهم وإرثهم الثقافي. في نفس السياق، لفت نظري خلال بحثي في ‏موضوع يتعلق بالهجرات التاريخية للفلاتا وقبائل غرب أفريقيا إلى الحبشة وأريتريا، أن التوثيق ‏لتلك الهجرات، ولسيرة بعض المدن السودانية المتاخمة لأثيوبيا موجود ضمن ما يسمى موسوعة ‏إثيوبيا. أكد لي مدى الاهتمام ليس بتدوين تاريخهم فحسب بل بإثبات وجودهم في المسيرة ‏الطويلة للحضارة الإنسانية أيضا. ‏

بالطبع أثار موضوع الموسوعة انتباهي مع تساؤلات عن الموسوعة من حيث الهدف منها وعن ‏محتواها ومقاصدها. بالطبع لم يغب عن بالي إمكانية وجود أهداف أبعد، وذلك في رأي يتعدى ‏حدود الاحتمال، ولم يغب عن البال تحويل الاسم من الحبشة إلى أثيوبيا. وهو الجانب الذي لم ‏نفق بعد عن غفلتنا عنه. ‏

عن الموسوعة:‏

تعتبر موسوعة إثيوبيا ‏Encyclopaedia Aethiopica‏ عملا قوميا ومنهجيا شاملا. ‏بالإضافة إلى أنه قُصِد بها أن تكون عملا مستوعِبا لكثير من الحقائق التاريخية لأثيوبيا حتى ‏تلك المثيرة للجدل (من قبل الآخرين). تركز الموسوعة على الدراسات الأثيوبية الإريترية في ‏مختلف جوانبها. وتغطي الموسوعة مواضيع في شتى التخصصات مثل: الأنثروبولوجيا ‏والاثنولوجيا، والآثار، والاثنولوجيا، والتاريخ والجغرافيا، اللغات والأدب والفنون، والدين والثقافة ‏والمعلومات الأساسية.‏

على الرغم من أن أغلب قراء الموسوعة هم من الأكاديميين، إلا أن معظم المقالات في ‏الموسوعة مكتوبة لغير المتخصصين. والموسوعة مزودة بالكثير من الإيضاحيات مثل الخرائط ‏والصور والكثير من هذه الإيضاحيات لم يتم نشرها من قبل ‏.‏

شارك في كتابة الموسوعة مئات المؤلفين من أكثر من ثلاثين دولة. ويترأس تحرير الموسوعة ‏حالياً بروفسور سيغبيرت أوليغ الذي شغل كرسي التدريس في معهد الدارسات الأفريقية ‏والآسيوية التابع لجامعة هامبورغ. وقد سبقه في المقعد بروفسور أليساندرو باوسي. ويشرف ‏على تطبيق المعايير الأكاديمية العالية فريق من وحدة أبحاث إثيوبيا بجامعة هامبورغ بألمانيا، ‏ويعاون المحررين خبراء من كل التخصصات ومجلس من المشرفين الدوليين. تتضمن ‏الموسوعة ببليوغرافيات شاملة تساعد الباحثين في إجراء البحوث والدراسات‏.

تعتبر الموسوعة مشروعا دوليا شارك فيه عشرات العلماء من أكثر من ثلاثين دولة بهدف إنجاز ‏عمل مرجعي متعدد المجلدات في الدراسات الإثيوبية والإريترية. وقد توفرت للموسوعة إمكانيات ‏مالية ضخمة. الجدير بالملاحظة أن التمويل تم من قبل عدة مؤسسات ألمانيا وإسرائيلية من ‏بينها: المؤسسة الألمانية للبحث ‏DFG، والمؤسسة الإسرائيلية الألمانية، ومؤسسة زيتفتونغ إبلين ‏وجيرد بوسيريوس الخيرية، ومؤسسة جوانا وفريتز بوخ التذكارية (ألمانية)، و”مؤسسة تعزيز ‏الدراسات الإثيوبية” في ألمانيا، وجامعة هامبورغ.‏

بدأت فكرة تصميم الموسوعة في وقت مبكر من عام 1994 في مركز هيوب لودولف؛ وبدأ ‏الإعداد المكثف لها في عام 1997 وبدأ نشاط التنسيق والتحرير الفعلي في جامعة هامبورغ في ‏عام 1999. تم نشر الموسوعة في خمسة مجلدات. وأخيرا تم الاحتفال باكتمال المشروع في ‏‏16‏‎ ‎يوليو 2014.‏

أهداف الموسوعة:‏

تهدف الموسوعة بشكل عام إلى توثيق وتسليط الضوء على جوانب مختلفة من تاريخ إثيوبيا ‏وثقافتها، وشخصياتها البارزة في مجالات الإعلام والفنون والمجتمع والسياسة‎.‎كما تهدف إلى ‏توفير معلومات موثوقة عن البلاد، بما في ذلك تاريخها، وتنوعها العرقي والديني، وأهميتها ‏الجيوسياسية، واقتصادها، وتحدياتها التنموية‎. ‎

ويمكن تلخيص أهداف الموسوعة فيما يلي:‏

‏*تهدف الموسوعة إلى التعريف بإثيوبيا وتاريخها وحضارتها ونشر المعرفة بإثيوبيا وإبراز دورها ‏الإقليمي والعالمي.‏
‏*تهدف الموسوعة إلى أن تكون مرجعًا شاملاً وموثوقًا به للباحثين والطلاب والمهتمين بإثيوبيا ‏في مختلف المجالات.‏
‏*تعزيز الهوية الوطنية‎ ‎وذلك من خلال توثيق تاريخ وحضارة إثيوبيا، تهدف الموسوعة إلى ‏تعزيز الشعور بالانتماء والفخر بالهوية الوطنية لدى الشعب الإثيوبي ‏.‏

كتاب طبقات ود ضيف الله:‏

لابد لي أن اعترف بأن معرفتي بهذه الموسوعة ساقتني للمقارنة بيننا وبينهم من حيث الاهتمام ‏بتدوين وتوثيق التاريخ والإرث الثقافي على المستوى القومي. ولم أجد ما يعزّي النفس في ‏تقصيرنا بهذه الناحية إلا وجود بضع أعمال سبقت بأزمان عديدة الإنجاز الأثيوبي. تمثل هذه ‏الأعمال منارات سامقة في هذا الاتجاه خاصة بمقياس الزمن الذي أُنجِزت فيه وبحسبان أنها ‏جاءت بمبادرات فردية. من بين هذه المبادرات كتاب طبقات ود ضيف الله الذي بالرغم من ‏اختلاف النوايا والمقاصد حاول أن يقدم توثيقا مهما لفترة زمنية طويلة خلال دولة الفونج. ‏

خلال بحثي عن معلومات عن موسوعة أثيوبيا وجدت نفسي استعرض مجهوداتنا كسودانيين ‏حول التوثيق القومي لتاريخنا، وإرثنا الثقافي. أستطيع القول إنه على حسب علمي لم أجد ما ‏أحسبه يرقى لما نطمح إليه، باستثناء بضع مجهودات فردية في غياب الرؤية القومية والتنسيق ‏والإشراف المؤسسي. من جانب آخر وبالرغم من هذا القصور، يُعتبر كتاب “طبقات ود ضيف ‏الله” ‏k ‎الذي سبق ظهور موسوعة أثيوبيا بأكثر من مائتي عام كعمل طليعي للتوثيق التاريخي ‏والثقافي المبكر بمعيار الزمن الذي ظهر فيه. كان الهدف كتاب الطبقات كان الهدف منه توثيق ‏سيَر وتراجم الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء خلال فترة الفونج. فكتاب الطبقات بالرغم من ‏أنه نتاج عمل فردي إلا أنه تجاوز الهدف من تأليفه ليكون فيما بعد عملا مرجعيا وتوثيقيا قيما. ‏فكتاب الطبقات قدم صورة وافية عن الأشخاص/العوامل المؤثرة في المجتمع في ذلك الوقت. ‏بالإضافة لذلك قدم الكتاب ملمحا واضحا عن البيئة الثقافية والتصورات والفهم الشعبي للدين ‏والحياة في ذلك الوقت. علما إن ما ورد في كتاب الطبقات يلقي الضوء على الهوية العربية ‏والإسلامية وهي في بواكير تشكُّلِها.‏

عند محاولة تقييم كتاب الطبقات لا بد من أن نضع في الاعتبار الظروف والسياقات التي ‏صاحبت تأليفه، والإمكانات المتاحة، من قِبل مؤلف وحيد. بالتالي فإن كتاب الطبقات وفق ‏الظروف المشار إليها إلا أنه يعتبر محاولة سديدة، تستحق الإشادة باعتبارها محاولة مبكرة. ‏ومن الخطل بالتالي تقييمه وفق ظروفٍ غير نلك التي أُلِّف فيه الكتاب. ‏

خاتمة:‏

أعتقد من خلال استعراض مشروع موسوعة اثيوبيا أننا في السودان في حاجة لعمل شبيه بذلك.‏
أعتقد في ظل التوهان والتشظي والتشرذم والتباعد الفكري والاجتماعي تجاه تاريخنا وحاضرنا، ‏وتعدد الرؤى والتفسيرات المتضاربة لبعض جوانب تاريخنا أننا في حاجة لمراجعة لموقف موحد ‏تجاه تاريخنا. بالطبع لا أتحدث عن مجرد عمل توفيقي أو تلفيقي متهافت، بل أتحدث عن ‏عمل علمي ومنهجي يحظى بالقبول. بعبارة أخرى إن وجود رؤية قومية شاملة للملمة الجهود ‏تجاه تاريخنا ضرورة وطنية كبرى. إن وجود رؤية وجهد قومي في هذا الاتجاه سيساعد في رتق ‏الفتق الاجتماعي وفي ردم الفجوة بين المكونات المجتمعية. بالإضافة إلى ذلك فإن وجود مرجع ‏قوميا للدراسات التاريخية والثقافية وموئلا معتمدا وموحدا للرجوع لهو مطلب ضروري للدارسين ‏والأكاديميين والباحثين. ‏
[email protected]
———-
المراجع:‏
‏1-الموقع الشبكي للمعهد الأفريقي الآسيوي -جامعة هامبورج ‏https://www.aai.uni-‎hamburg.de/en/ethiostudies/research/encyclopaedia/eae.html
‏2-(تاريخ مدينتي القضارف وسنّار.. من منظور إثيوبي) مقال منشور، صحيفة مداميك أغسطس 2024. ‏
‏2-ويكبيديا إنجليزي
‏3-ويكبيديا عربي
‏4-كتاب طبقات ود ضيف الله
‏ (د. محمد عبد الله الحسين)‏

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..