مقالات وآراء

السودان في قبضة الانهيار النقدي: الجنيه يتهاوى والأسواق تشتعل

الصادق بابكر الأمين*

شهد الجنيه السوداني تراجعًا غير مسبوق أمام العملات الأجنبية خلال الأيام الأخيرة، حيث تجاوز سعر الدولار في السوق الموازي 3,345 جنيهًا، مقارنة بـ 2,600 جنيه مطلع الشهر الجاري. كما بلغ الدرهم الإماراتي 930 جنيهًا، والريال السعودي 860 جنيهًا. هذا الانهيار الحاد لم يكن مجرد رقم في سوق الصرف، بل كانت له ارتدادات عميقة على الاقتصاد الكلي وحياة المواطنين اليومية.

أسباب الانهيار: اقتصاد في حالة حرب

إن التدهور الأخير للجنيه السوداني لا يمكن عزله عن السياق العام الذي تمر به البلاد. فمنذ اندلاع النزاع المسلح بين الجيش والدعم السريع، يعيش السودان حالة من الشلل الاقتصادي التام، حيث:
توقفت معظم الأنشطة الإنتاجية، سواء الزراعية أو الصناعية، بسبب غياب الأمن وتدمير البنى التحتية.

انهارت سلاسل الإمداد والتوزيع، ما أدى إلى ندرة في السلع وارتفاع تكاليف النقل.

تراجع الإيرادات الحكومية، مع تعطل الجمارك والضرائب وانهيار النظام المصرفي الرسمي في عدد من الولايات.
وفي هذا المناخ المضطرب، برز السوق الموازي كالمتنفس الوحيد للتجار والمستوردين، لكنه في ذات الوقت أصبح الساحة الأكثر تأثيرًا في تحديد قيمة العملة.

العرض والطلب: الديناميات المتحكمة

يؤكد متعاملون أن التدهور المفاجئ يعود إلى شح المعروض من العملات الأجنبية في ظل تزايد الطلب عليها. هذا النقص لا يتعلق فقط بغياب الصادرات والتحويلات الرسمية، بل يتصل أيضًا بتوسع اقتصاد الظل، الذي يستنزف العملات الأجنبية في عمليات تهريب الذهب، وشراء السلاح، وتمويل شبكات المصالح المرتبطة بالحرب.
كما أن غياب البنك المركزي عن التدخل في السوق – نتيجة ضعف الاحتياطي النقدي وهيكلة الدولة المالية – جعل السوق الموازي المتحكم الوحيد في قيمة الجنيه، في ظل عجز كامل عن فرض سياسات نقدية فعالة.

النتائج المباشرة: التضخم يلتهم الدخول

انعكس تدهور العملة مباشرة على أسعار السلع الأساسية، التي قفزت بنسبة تتراوح بين 50-70% في بعض المناطق، ما وضع ملايين السودانيين أمام معادلة صعبة: إما الجوع أو الهروب.
الأسر المتوسطة فقدت قدرتها الشرائية تمامًا.
العمال والموظفون باتت دخولهم بلا قيمة حقيقية.
الطبقة الفقيرة لم تعد قادرة على تأمين أبسط حاجاتها.
وبما أن معظم السلع الاستهلاكية مستوردة أو تعتمد على مدخلات إنتاج أجنبية، فإن كل تراجع في الجنيه يعني موجة جديدة من الغلاء.

من الانهيار إلى الإفلات: هل هناك طريق للنجاة؟

إن استمرار هذا الاتجاه يقود البلاد إلى ما يمكن وصفه بـ “التضخم الانفجاري” (Hyperinflation)، والذي قد يُفقد الجنيه أي قيمة متبقية له، ما لم تتخذ خطوات عاجلة تشمل:

1. وقف النزاع المسلح كأولوية مطلقة، لأن الحرب تمثل الثقب الأسود الذي يبتلع كل مقومات الاقتصاد.
2. تفعيل دور البنك المركزي، ولو بشكل جزئي، لضبط السوق عبر أدوات نقدية استثنائية.
3. الاستفادة من الموارد الحقيقية، مثل الذهب والصمغ والماشية، عبر قنوات رسمية تدر عملات صعبة.
4. التفاوض مع المؤسسات المالية الدولية لتأمين دعم طارئ يعيد التوازن المالي والنقدي.
لكن كل هذه الحلول لن تكون فعالة ما لم يُعاد بناء الثقة في مؤسسات الدولة، واستقرار الحكم، وتوحيد القرار الاقتصادي.

خاتمة

الاقتصاد السوداني اليوم ليس فقط ضحية الحرب، بل ضحية غياب الرؤية، وتهتك الدولة، وانفصال القرار الاقتصادي عن الإرادة الشعبية. ومع تهاوي الجنيه، تتهاوى الآمال في بقاء الطبقة الوسطى، ويزداد عدد من يسقطون في هاوية الفقر. فهل من أفق للإنقاذ، أم أن الجنيه وحده لن يكون آخر ما يسقط؟
[email protected]

  • خبير في الشئون الاقتصادية ومراجع عام

‫2 تعليقات

  1. مما ذكر فغي المقال : تراجع الإيرادات الحكومية، مع تعطل الجمارك والضرائب وانهيار النظام المصرفي الرسمي في عدد من الولايات.

    تعليق : هل الجمارك و الضرائب عوامل تقوي الاقتصاد أم أنها في كثير من الاحيان تضر بالاقتصاد و بالذات في دول العالم الطائش مثل السودان

    بالمقابل اين عائدات صادرات الذهب الذي استمر تصديره بطرق غير قانونية مع استمرار الحرب ؟
    ايضا السبب الرئيس لتدهور الجنيه في فترة الحرب هو نقص أو توقف الانتاج في أنشطة كثيرة و منها الصناعات و انتاج و تصدير البترول و بعض المشاريع الزراعية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..