مقالات وآراء

الأطفال في الفاشر تحت الحصار: جيل يواجه الفناء في صمت

الطيب محمد جادة

في عمق مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، يعيش أكثر من 800 ألف طفل وسط جحيم من الحرب والجوع والتشريد، في واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم. ومنذ اندلاع النزاع المسلح في السودان في أبريل 2023، تحوّلت الفاشر إلى ساحة مواجهة دامية بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، حوصر فيها المدنيون، ووقع الأطفال ضحايا لصراع لا ناقة لهم فيه ولا جمل.

تُعد الفاشر آخر مدينة رئيسية في دارفور لا تزال تحت سيطرة الجيش، لكنها أصبحت اليوم محاصَرة تمامًا. الطرق مغلقة، الإمدادات مقطوعة، والمخيمات مكتظة بالنازحين. منظمة اليونيسف قدّرت، في مارس 2025، وجود أكثر من 825,000 طفل عالق في الفاشر ومخيم زمزم المجاور، يواجهون خطر القتل، الجوع، أو الموت بسبب الأمراض.

في غضون أقل من ثلاثة أشهر، قُتل أو جُرح ما لا يقل عن 70 طفلًا في الفاشر وحدها. وفي أبريل 2025 فقط، وثّقت اليونيسف مقتل 23 طفلًا خلال أيام معدودة نتيجة القصف العشوائي الذي طال مناطق مكتظة مثل أبو شوك وزمزم. وفي حادثة هزّت الرأي العام، قُتل أربعة أطفال وأُصيب ثلاثة آخرون نتيجة قصف مباشر لمستشفى “السعودي” في المدينة، وهو أحد آخر المرافق الطبية العاملة في المنطقة.

تُظهر التقارير أن الأطفال في الفاشر لا يواجهون فقط خطر القتل المباشر، بل أيضًا سوء التغذية الحاد. أكثر من 457,000 طفل يعانون من سوء تغذية، بينهم 146,000 في حالة حرجة تهدد حياتهم. ومع نفاد مخزون الغذاء العلاجي في المخيمات، تتزايد حالات الوفاة بين الأطفال الذين يُفترض أن يكونوا في عمر اللعب لا على شفير الهلاك.

المدارس مغلقة، المستشفيات مستهدَفة، والملاجئ تحولت إلى قبور جماعية. الأطفال في الفاشر لا يحصلون على أي نوع من التعليم أو الرعاية النفسية. هناك تقارير صادمة عن أطفال انفصلوا عن أسرهم، وفتيات يتعرضن لانتهاكات جنسية في مراكز النزوح. العنف أصبح هو الواقع اليومي، والطفولة فقدت معناها.

رغم فداحة الكارثة، فإن المجتمع الدولي يبدو مترددًا أو غير مكترث. لم تُفعَّل أي آلية لحماية المدنيين بجدية، ومطالبات الأمم المتحدة بفتح ممرات إنسانية لم تُقابل سوى بالتجاهل أو الاستهزاء. في يونيو 2024، صدر قرار مجلس الأمن رقم 2736 الذي دعا إلى رفع الحصار عن الفاشر، لكنه لم يُنفّذ حتى اليوم.

أطفال الفاشر لا يحتاجون إلى كلمات تعاطف، بل إلى تحرك فعلي: وقف فوري لإطلاق النار، ممرات آمنة للمساعدات، حماية المرافق المدنية، وضمان حصول الأطفال على الغذاء والعلاج والتعليم. فالعالم الذي يسمح بقتل الأطفال جوعًا أو قصفًا، هو عالم يُسقط نفسه أخلاقيًا.

ما يجري في الفاشر ليس مجرد أزمة إنسانية، بل جريمة مكتملة الأركان بحق الطفولة. الأطفال هناك لا يموتون فحسب، بل يُمحَون من سجل الإنسانية. وإذا لم يُرفع الحصار وتُستأنف الإغاثة، فإننا سنشهد خلال أشهر كارثة تتجاوز المجاعة إلى إبادة جيل كامل.

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..