مقالات وآراء

من اليمين الصاخب إلى التفهّم الكامل؛ رحلة تاكر كارلسون بين عداء العرب والمسلمين وفضح الأوليغارشية الصهيوني

علاء خيراوي

كان الإعلامي المعروف تاكر كارلسون، حتى وقت قريب، رمزًا صاخبًا لليمين الأمريكي الشعبوي، يرتدي عباءة العداء الصريح للمهاجرين والإسلام وكل ما يخرج عن سردية “أمريكا أولًا” البيضاء البروتستانتية. لكنه، في انعطافة فكرية جريئة ونادرة في الوسط الإعلامي الأمريكي، راح يهدم ما بناه بالأمس، ويفتح جبهات جديدة في مواجهة من ظلّوا لسنوات يختبئون خلف الشعارات الأخلاقية المزيفة والرايات النيوصهيونية المقدّسة.

كارلسون لم يكن مجرد مذيعٍ متحمس في شبكة “فوكس نيوز”؛ بل كان أهم أصواتها وأعلى أبواقها صراخًا وتأثيرًا. وبرنامجه “Tucker Carlson Tonight” ظلّ لسنوات المنصة الأكثر مشاهدة في الإعلام الأمريكي المحافظ. لكن ما يلفت النظر في هذا الرجل ليس فقط حجم حضوره، بل تحوّلات خطابه التي قلبت الطاولة على من كانوا يصفقون له، وجعلته اليوم خارج أسوار الإعلام التقليدي وخارج عباءة اللوبيات الإسرائيلية التي كانت تستثمر فيه.

في زمنٍ يتغوّل فيه الإعلام الأمريكي على كل من يحاول فتح ملف “إسرائيل” أو طرح أسئلة محرّمة عن دورها في صياغة السياسة الخارجية لواشنطن، خرج كارلسون ليكسر أحد أعمدة التواطؤ الإعلامي في أمريكا، صمت النخب عن إسرائيل.

فها هو اليوم، في بثوثه المستقلة بعد خروجه من فوكس، يوجّه سهامه بحدة غير مسبوقة إلى تلك الكتلة غير المرئية من الساسة والإعلاميين الأمريكيين الذين حسب وصفه يقدّمون مصالح تل أبيب على مصالح الولايات المتحدة، ويقودون واشنطن إلى مغامرات خارجية كارثية، سواء في الشرق الأوسط أو أوكرانيا، لصالح أجندات لا علاقة لها بالمواطن الأمريكي العادي.

من خطاب “الحرب على الإسلام” إلى محاولة فهم المسلمين

تاكر كارلسون لم يأتِ من فراغ. هو نتاج ماكينة إعلامية ضخمة غذّت عقله بمقولات “الإسلام الفاشي”، و”الخطر الديمغرافي”، و”غزوة المهاجرين”. لطالما استشهد بأحداث سبتمبر، وغذّى فوبيا اللاجئين السوريين، ودافع عن حظر ترامب للمسلمين، وهاجم أي انفتاح على القضية الفلسطينية بوصفه “معاداة للسامية”.

لكن في السنوات الأخيرة، ومع خروجه من عباءة فوكس، بدأ كارلسون يظهر بملامح أخرى، أقل صراخًا، أكثر عمقًا، وأقرب إلى المساءلة لا التحريض. لقد أجرى مقابلات مع شخصيات عربية ومسلمة لم يكن ليمنحها المنصة في السابق، وأظهر استعدادًا نادرًا في الإعلام الأمريكي للاستماع لا للاتهام، للفهم لا للوصم.

هذا التحول لا يعني اعتناق تاكر للعدالة الكونية أو أنه بات نصيرًا للمضطهدين حول العالم، لكنه يعكس تحوّلًا في الحسابات والتوازنات، خصوصًا بعد أن أصبح إعلاميًا حرًّا يتبع قناته الخاصة ولا تحكمه تعليمات الشركات واللوبيات. وبات أكثر ميلاً للتساؤل عن أصل الصراعات، دوافعها، والمستفيد منها.

ربما تكون أخطر مناطق خطاب تاكر الحالية، وأكثرها إثارة للذعر داخل نخب واشنطن، هي تلك المتعلقة بـالدولة العميقة وارتباطها بالمشروع الصهيوني العابر للحدود. لقد هاجم، علنًا، شخصيات أمريكية نافذة تتبنى، دون خجل، أجندات إسرائيلية صرفة في الكونغرس والإعلام ومراكز الفكر، وذهب إلى ما هو أبعد من مجرد الانتقاد؛ دعا إلى محاسبة هؤلاء الذين يضحّون بالجنود الأمريكيين من أجل مصالح غير أمريكية.

قالها بوضوح، لماذا يموت شباب أمريكا في صراعات ليست لنا؟ من الذي يقرر سياسات الحرب والسلم؟ لماذا كل من ينتقد إسرائيل يُشيطن ويُطرد ويُسحق مهنياً؟ تلك أسئلة كانت حتى الأمس القريب من المحرمات. واليوم، تاكر يسألها على رؤوس الأشهاد، ويوثقها بوقائع، ويجرؤ على ربطها بالأسماء والمناصب والصفقات.

فهل تحوّل تاكر كارلسون إلى أيقونة مضادة للنظام؟

الإجابة ليست سهلة. الرجل لا يزال يطرح بعض أطروحاته القديمة، خاصة في ما يتعلق بالهجرة والتفوق الحضاري للغرب. لكنه، من جهة أخرى، تجاوز خطوطًا حمراء لم يجرؤ على تخطّيها كثير من “التقدميين” أنفسهم، وفتح ملفاتَ لو فُتحت على يد صحفي عربي لتمّت شيطنته أو اعتباره عميلًا لروسيا أو إيران.

تاكر لا يدافع عن المسلمين، لكنه يعترف أن ظلمهم المتراكم، وخاصة في فلسطين وأفغانستان والعراق، لا يمكن تفسيره بمنطق أخلاقي. ولا ينتمي لليسار، لكنه فضح مَن يُسمَّون ليبراليين حين خضعوا بالكامل لإملاءات الممولين وأصحاب النفوذ.

إنه يخرج اليوم من عباءة الإعلام المؤدلج، ويبدو كمن قرر شق طريقه عبر الغابة المسكونة بالمحرّمات. ولا عجب أن يجد جمهورًا متعطشًا للحقيقة، حتى وإن كانت الحقيقة تأتي على يد رجلٍ كان يومًا من أشرس خصومها.

اذاً، رحلة تاكر كارلسون ليست مجرد تحوّلٍ في خطاب مذيع أمريكي. إنها مرآة لفشل النظام الإعلامي التقليدي في تمثيل مصالح الناس، وانفجار أزمة الثقة بين الشارع الأمريكي والنخب المتحكمة في الاقتصاد والسياسة والسردية الكبرى.

كارلسون، بجرأته، يعيد تعريف الممنوع، ويرسم حدودًا جديدة للمعركة، لم تعد بين “يمين ويسار”، بل بين من يسأل ومن يخاف من الأسئلة
وهذا بحد ذاته في زمن القمع الناعم أخطر ما يمكن أن يفعله صحفي حُرّ.

[email protected]

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..