مقالات وآراء

حين يتحوّل العنف إلى مشروع، هل نملك الجرأة على تفكيك الموروث الدموي؟

د. الهادي عبدالله أبوضفائر

العنف في تاريخنا ليس طارئاً، بل هو ظلّ ثقيل يستوطن الذاكرة، يثقل الوعي ويعكّر البصيرة. ظلٌّ داهم يُربك سعينا نحو وطنٍ يتوق إلى طمأنينة لم تكتمل، وسكينة لم تولد بعد. إنه ليس مجرد حدث سياسي، بل جرحٌ مفتوح لا يُشفى بالتجاهل، بل يقتضي مواجهة تُعيد تشكيل الذات، وتكسر إرث التوحش المتنكر في أثواب البقاء والسلطة. ومع ذلك، فهو ليس قدَراً ولا لعنةً مغروسة في التربة، بل علامة على انكسارٍ داخلي، على اختلال العلاقة بين الإنسان وقيمه. حين تتآكل المعايير، وتضيع البوصلة الأخلاقية، ينبثق العنف لا كخيار، بل كعَرَضٍ لانهيار أعمق. النجاة لا تأتي من الشعارات، بل من مصالحة حقيقية مع المبادئ التي تحفظ للإنسان كرامته، وللوطن معناه. فالسؤال الجوهري لم يعد كيف نُسكت البنادق؟ بل كيف نُعيد للعدالة معناها، وللكرامة حضورها، وللإنسان مكانه؟ فالسلام، في جوهره، ليس غياب الحرب، بل تجلٍّ رفيعٌ للعدل، حين يسمو الإنسان فوق غريزة القهر، ويختار البناء على أنقاض الوجع.

لا يُكتب للسلام ميثاقٌ في أرضٍ يجحد أهلها بعضهم، فحيث يُهمّش الإنسان يُغتال الوطن، وحيث لا يُحتفى بالاختلاف يموت الأمل ويُنفى العدل. ولا يورق في تربةٍ يُستأصل منها التنوع، أو يُجتثّ فيها المختلف. فالمجتمع الذي يغض الطرف عن تعدد وجوهه، وينكر على بعض أبنائه حقّهم في الوجود، إنما يؤسس من حيث لا يدري لبذور الشقاق، ويُهيئ الأرض لانفجار الصراع. إن الإقصاء ليس مجرد فعلٍ سياسي، بل جرح في ضمير الجماعة، يولّد شعوراً بالظلم، يتكثّف مع الزمن حتى ينفجر عنفاً. وحين يُقصى الإنسان بسبب لونه، أو لغته، أو معتقده، أو رأيه، فإن الوطن كلّه يتصدّع، لأن ما يجعل المجتمع متماسكاً ليس التشابه، بل القدرة على العيش في ظل الاختلاف دون خوف أو إقصاء. من صميم مبادئنا أن نُعلي من شأن الإنسان، ونصون كرامته، لا لكونه شبيهاً بنا، بل لكونه إنساناً. وحين يُترجم هذا الإحترام من حبر النصوص إلى سلوكٍ يومي، حين يصبح ثقافةً نمارسها في القول والفعل، نكون قد وضعنا أول حجر في بناء سلام لا تزعزعه العواصف. فالسلام ليس مجرد هدنة بين خصمين، بل هو وعي متبادل، واعتراف أصيل بالآخر، واحترام ينبت من جذور الكرامة الإنسانية. إنه تعايش لا يُظلّله الخوف، بل تُظله القيم، وتُسنده إرادة العدل، حيث لا يُقصى أحد، ولا يُهان لمجرد أنه مختلف.

ليست العدالة زينة تُعلّق على جدران الدساتير، ولا شعارات تُردَّد في الخطب والمناسبات؛ إنما هي فعلٌ صارم، وتجسيد حيّ لقيمة تَعدِل المِيزان وتُقيم الحقّ في وجه الباطل. فحيثما غابت العدالة، تهاوى الإحساس بالأمن، وتحوّلت الأرض إلى مستودع لبذور العنف تنتظر ساعة الانفجار. العنف لا يولد من فراغ، بل يتغذّى على الشعور بالحيف، ويتعاظم في ظلّ إفلات الظالمين من العقاب، وتهميش المستضعفين عن مائدة القرار. ولذلك، فإن تمكين المواطنين كافة دون تمييز من المشاركة الحقيقية في صناعة مصيرهم، ومساءلة من يعبث بثرواتهم أو يعتدي على حقوقهم، ونشر روح المساواة والإنصاف بين أبناء الوطن، ليست مطالب سياسية عابرة، بل شروط أساسية لتفكيك دوائر العنف المتوارث. العدالة، عندما تُمارس، تُطفئ نيران الغضب الكامن في الصدور، وتعيد الثقة بين المواطن والدولة، وبين الأمل والمستقبل. فهي القادرة على جمع الشتات، وترميم الشروخ، وردّ الكرامة إلى النفوس التي أنهكها التهميش والقهر. وحين تَسكن العدالة في تفاصيل الحياة، يصبح الوطن مأوى للطمأنينة، لا ساحةً للاقتتال، وتغدو السياسة أداةً للبناء لا وسيلة للهدم.

العنف، في جوهره، ليس إلا رجعَ صدى لصراعاتٍ تم التنكُّر لها في أول الطريق، ونداءات خافتة عبرت الفراغ دون أن تجد قلباً يصغي أو ضميراً يفيق. فهو حصاد مُرّ لظلٍّ ثقيل من المظالم المُتراكمة، حيث غابت المكاشفة، وغرب النور، فاختزن الألم جمرةً في الصدر، ما لبثت أن انفجرت على هيئة خراب. فما لا يُقال لا يموت، بل يتخمّر في الأعماق؛ وما لا يُناقش يتحوّل إلى غضب صامت يبحث عن مخرج، ولو عبر الفوضى. من هنا، لا يكون الحوار ترفاً، بل شرط نجاة. شرطٌ لا يتحقّق عبر منابر عالية تُلقَى منها التعليمات، ولا من خلف جدران المساومات، بل في فضاء يُتاح فيه للكل أن يُصغي ويُسمَع، دون إقصاء ولا وصاية. السلام لا يُولد من الوثائق وحدها، بل من يقظة داخلية تعي أن العنف، مهما جُمّل، لا يخلّف إلا خراباً، وأن البناء لا يكون إلا بالاعتراف، والتسامح، والتوافق على قواعد للعيش المشترك. وهنا، تنهض المؤسسات التعليمية والثقافية بدورها الأخلاقي والتربوي، لا كحواشٍ للنظام، بل كمصانع للوعي. فحين تُبثّ من مناهجها وقاعاتها قيمُ الاحترام والسلام، وتُفكّك روايات الكراهية والفرز، تُصبح الثقافة نواةَ التغيير، لا مجرد زينته. إن الوعي لا يُفرض، بل يُنشأ، لتكون ثقافة تُكرم الإنسان وتحتفي بالاختلاف، وتفتح الطريق لتحوّلٍ أعمق، لا في السياسة وحدها، بل في الروح العامة، وفي نظرة الناس إلى بعضهم، وفي الحلم المشترك بوطن يسع الجميع.

الروح الإنسانية، في جوهرها الأصفى، لا تعرف غير الرحمة والتسامح والاعتدال. ومهما اختلفت المشارب العقائدية، أو تنوّعت المرجعيات الفكرية، فإن القاسم المشترك بيننا جميعاً هو تلك الدعوة الكامنة في أعماق الضمير إلى السلام، ونبذ العنف، واحترام الحياة. غير أن هذه القيم، إن ظلت معلّقة في فضاء التنظير، لا تُحدث أثراً، ولا تردم هوةً، ولا تُبدد ظلماً. إنها تحتاج أن نعيد لها الاعتبار في تفاصيل حياتنا اليومية، في سلوكنا، وخياراتنا، ونمط تفاعلنا مع المختلف والمخالف. فالتسامح ليس خطاباً جميلاً فحسب، بل مجاهدةٌ للأنانية، ومقاومةٌ لصوت الغضب، والتزامٌ أخلاقي بأن يكون السلام عقيدة حياة، لا لافتة موسم.ًوالتوافق مع المبادئ لا يتحقق بالقول وحده، بل بالفعل، بالكدح في سبيل تحويل القيم إلى واقع. ذلك التغيير يبدأ من الداخل: من إعادة تشكيل طرق التفكير، من تفكيك البنى الذهنية التي تُغذي العنف وتبرّره، من تجفيف منابع الكراهية في الخطاب والثقافة. إنها مسؤولية مزدوجة: فردية وجماعية. مسؤولية أن نكون شهوداً للسلام، لا متفرجين على مآسي العنف. وأن نحمل في وعينا ووجداننا إيماناً عميقاً بأن مجتمعاً متناغماً لا يُبنى بالتشابه، بل بالاعتراف والاحتضان والتعايش. فحين نكون أوفياء لقيم إنسانيتنا العليا، نغرس في تربة الوطن بذور الأمل. نخطّ بأيدينا طريقاً نحو مستقبلٍ يخرج من رماد العنف، ويُشرق فيه ضوء لا ينطفئ… ضوء السلام الذي لا رجعة عنه.

[email protected]

تعليق واحد

  1. ان المجتمع السودانى ظل يسبغ على نفسه صفات ونعوتا لا تتوفر لدى الغالبية من افراده بل ان نقيضتها تماما مكتومة داخل اى منهم سرعات ما ينفلت عقاله فى لحظة ما فقد ظللنا نسمع باننا مجتمع متسامح غير عنيف ولكن انكشف الغطاء على حقيقته المفزعة ليس اليوم بل منذ ما قبل نيل الاستقلال فى جنوب السودان حيث مارست المؤسسة الحاكمة عبر الذراع العسكرى أبشع صنوف التنكيل والقهر ضد مواطنين ابرياء لم يكن لهم يد فى التمرد… ولعل اكثر ما يدهش المرء ان تلك الفظائع لم يتم تسليط الضوء عليها بل ان الذاكرة الجمعية فى السودان لا زالت تحتفظ لوزير دفاع الجنرال عبود اللواء حسن بشير نصر بحق حرق الجنوبيين بعبارة ( كان يخلو حسن بشير يحرقهم ) وكانه قد قصًر فى القايام بالمطلوب,, وعبر السنين انكشف زيف الصورة التى رسمناها عن مجتمعنا وانفسنا.. أنه مجتمع غارق فى العنف والقبلية ولعلنا نستعيد ماقاله الدكتور ابوحريرة استاذ القانون بجامعة الخرطوم ووزير التجارة والعضو البرلمانى فى حكومة الصادق المهدى فى الديموقراطية الثالثة عندما ووجه فى البرلمان واستشاط غضبا وتفوه بكلمات لا تسمح بها مقاعد البرلمان ولما طلب منه الاعتذار وسحب ما قاله من المحضر…قال بصلف وعنجهية رافضا الاعتذار واضاف ( انا من قبيلة تقتل ولا تعتذر) هذا مشهد بطله استاذ للقانون فى اعرق وأميز الجامعات السودانية,,, العنف اللفظى امر شائع فى السودان لدرجة ان عبارة ( شكرا) لا يستسيغها البعض وكثيرا ما تسمع من صاحب بقالة بعد شرائك سلعة وانت تقول له شكرا يرد عليك بقوله ( الشكر على شنو دا حقك) اما مؤسسات الدولة فلها القدح المعلى فى العنف بكافة صوره وتتجلى فى حملات ما سميت بالكشات فى الشارع العام او الاسواق,,,,العنف والمخاشنة نشهدها فى تقاطعات الشوارع الرئيسية واسال الله الا يريك بعضا منها عند اشارة مرورية فى الخرطوم بعد انقطاع تيار الكهرباء,,, وكان من مظاهر هذا العنف ما صرح به الخليع المخلوع الراقص فى افطار رمضانى ( لقد قتلنا عشرات الاف فى دارفور لابسط الاسباب) الغريب ان هذا العبقرى المعتوه كان يورد رقما كانه لاعداد الدواجن بسبب انفلونزا الطيور لا ارواحا ازهقها وقد ائتمنه الله عليها وسائله عنها لا محالة يوم الحساب,,,ولعل اخر صور العنف فى مجتمعنا ما اسفرت عنه حرب الثلاث سنوات التى سميت بحرب الكرامة ففيها تم تجاوز كل الخطوط التى ما ظننا قط يوما اننا سنتجاوزها فالقتل على اللون والهوية والانتماء الجغرافى واللسان واحيانا على الاسم اما على مستوى العتف اللفظى فقد صار هذا ضمن حياتنا اليومية,,,,, العنف يتشكل لفظيا قل ان يتحول الى مواجهة وتكون مغلفة بعبارات رنانة كالكرامة والحرية والديموقراطية….ويا للحسرة احيانا بالوطنية

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..