مقالات وآراء

السودان ساحة النفوذ المنكوب؛ بين مطرقة القاهرة وسندان الرياض

علاء خيراوي

ما كان للخرطوم، الجريحة بدمها وانقسامها، أن تصبح ساحة تراشق مكتوم بين حليفين إقليميين، لولا الفراغ الذي تمدد، والقرار الوطني الذي نُزع من أيدي أهله. بين القاهرة والرياض، لا يدور اليوم جدل تنسيقي كما يُشيع الإعلام الرسمي، بل تنازع على النفوذ ومنافذ التأثير، يبدأ من بوابات بورتسودان، ولا ينتهي عند تشكيل هوية الجيش السوداني. تلك المؤسسة التي يُراد لها أن تكون مطيّة لا شريكًا، وأن تُعاد صياغتها لا وفق المصلحة الوطنية، بل بما يُرضي أشواق العواصم المتنازعة على ميراث ما بعد الخراب.

قرار المملكة العربية السعودية بالتخلي عن مشاركة العازفين المصريين في موسم الرياض الأخير بدا، في ظاهره، قرارًا ثقافيًا تقنيًا. لكنه في حقيقة الأمر حمل ما هو أعمق وأخطر رسالة سياسية صامتة لكنها مدججة بالوضوح، مفادها أن الهوّة بين الرياض والقاهرة لم تعد قابلة للتجميل. وحين يقترن ذلك بتعطّل المشاريع السعودية في ملف إعادة إعمار المقار الحكومية في الخرطوم، فإن المعنى يصبح أوضح من أن يُوارى خلف المجاملات: نحن إزاء تحوّل فعلي في خريطة التموضع السعودي، وتبرّم من السلوك المصري الذي لا يخفي رغبته في تصدّر المشهد الأمني والعسكري في السودان.

ما يجري خلف الكواليس يُنذر بما هو أكبر من الخلاف. فبورتسودان لم تعد مجرّد مدينة إدارية بديلة، بل تحوّلت إلى رأس جسر للصراع على النفوذ داخل الجيش. فالقاهرة تسعى، بوضوح، إلى استعادة منظومة السيطرة الكلاسيكية التي لطالما أحكمت بها القبضة على السودان القديم: رجال منسوبون للأجهزة، عقائد عسكرية تقليدية، وشبكات نفوذ ممتدة داخل المؤسسة النظامية. وفي المقابل، تتحرك الرياض بمنطق ناعم لكنه نافذ، فتدفع نحو إعادة تشكيل قيادة الجيش بما يتماشى مع تصور خليجي أوسع، تقليص النفوذ الإسلامي، استبعاد الشخصيات غير المرغوب فيها، وخلق جيش قابل للاحتواء.

وسط هذا التجاذب، تتآكل ثقة الضباط ببعضهم البعض، وتتموضع القيادات الشابة داخل اصطفافات غير معلنة، بعضها يميل للعاصمة الخليجية، وبعضها لا يُخفي ولاءه للنهج المصري الصارم. وهكذا، تتشكل تدريجيًا بيئة خصبة لانقسام داخلي، لا يُستبعد أن يتطور إلى تصدّع علني، أو إلى حروب صلاحيات تتفجّر في اللحظة التي تخرج فيها الحسابات الإقليمية عن السيطرة.

لكن مشهد السودان، بكل تعقيداته، لا يُفهم بمعزل عن خارطة الصراع الأكبر بين القاهرة والرياض. فالملف الليبي وحده يكفي دليلاً على عمق التباين، مصر تنظر إلى ليبيا باعتبارها جدارها الغربي، وتُراهن على دعم حفتر كضمانة للأمن والاستقرار، بينما ترى السعودية أن الانفتاح على حكومة الوفاق السابقة أو القوى التركية ضرورة واقعية ضمن تسوية دولية متكاملة، وهو ما تعتبره القاهرة تقويضًا لحلفائها الميدانيين.

وفي ملف تركيا وقطر، تتعامل مصر مع العاصمتين كمصدر تهديد دائم، خاصة بعد دعم أنقرة للإخوان المسلمين وإيوائها قياداتهم، بينما تبنّت الرياض منذ عام ٢٠٢١ مقاربة المصالحة والانفتاح، فرفعت الحصار عن قطر، وفتحت خطوط تنسيق جديدة مع أردوغان، الأمر الذي أثار انزعاجًا صامتًا في القاهرة التي رأت في ذلك انقلابًا على روح التحالف العربي لما بعد ٣٠ يونيو.

ثم يأتي ملف الإسلام السياسي باعتباره عقدة التمايز الجوهرية. فمصر تتعامل معه كقضية أمن قومي وجودي، بينما تبدو السعودية بعد تحولات ما بعد خاشقجي وخرجت قمة “العلا” في يناير ٢٠٢١ أقرب إلى البراغماتية، إذ خفّفت من خطابها المعادي للإسلاميين، بل وأبدت ليونة تجاه بعض التيارات السلفية المحلية التي كانت محظورة سابقًا، في حين ظلت مصر ترفع شعار “لا مصالحة ولا عودة”، وترى أن أي تهاون في هذا الملف هو طعنة في الخاصرة.

وفي أزمة سد النهضة، بدت السعودية وكأنها تتعامل بحسابات اقتصادية لا استراتيجية. إذ لم تعلن دعمًا صريحًا للموقف المصري، ولم تُفعّل أي أدوات ضغط تجاه إثيوبيا، بل واصلت الرياض برامجها الاستثمارية في أديس أبابا، وأدرجت مشاريع زراعية مشتركة معها ضمن خطط الأمن الغذائي الخليجي. بالنسبة للقاهرة، التي تعتبر المياه قضية حياة أو موت، فإن هذا الموقف أقرب إلى التواطؤ بالصمت.

أما في القرن الإفريقي، فقد تصاعد التنافس بشكل غير معلن، مصر تسعى لإعادة تفعيل تحالفاتها التاريخية في جيبوتي والصومال، مدفوعة بهاجس الأمن القومي ومحاولة قطع الطريق على النفوذ الإثيوبي، فيما تتحرك السعودية عبر تحالفات مالية وأمنية أكثر فاعلية، وتدخل كممول رئيسي لمشاريع الموانئ والبنية التحتية، وهو ما أعاد رسم خرائط النفوذ في البحر الأحمر لصالحها، على حساب النفوذ المصري التقليدي الذي بات يترنح تحت وطأة الشح المالي وقلة الأدوات.

وفي وسط هذه الدوامة، يتقلّب السودان بين أجنحة المصالح. لا لأن قدره أن يُدار من الخارج، بل لأن نُخبه اختارت، طواعية أو قسرًا، أن تُدير ظهرها لواجبها الأخلاقي. الخطورة لا تكمن فقط في تسابق الرياض والقاهرة على الجيش، بل في استعداد بعض القادة السودانيين للتحوّل إلى وكلاء في صراع الغير، مقابل دعمٍ أو وعودٍ أو تصوّر زائف للحماية.

وحدها القوى المدنية، إن بقي لها نفس، تملك فرصة قلب الطاولة. ليس عبر الشعارات، بل عبر إعادة صياغة المشروع الوطني على أساس رؤية لا تقبل أن يكون الجيش ورقة مساومة، ولا أن يكون الشعب خريطة لغيره. إذا لم تتقدم القوى المدنية بطرح صلب، متماسك، مستقل، فإن البلاد لن تسقط فحسب، بل ستُعاد هندستها من الخارج وفق ما تقتضيه مصالح الآخرين. فإما تسوية سودانية شجاعة تحمي وحدة المؤسسة العسكرية وتصون القرار الوطني، وإما تمزّق زاحف تتبدّد معه آخر فرص الاستقرار.

[email protected]

تعليق واحد

  1. جيش العرر منذ تأسيسه هو كذلك و الآن مثل العاهرة التي يتنافس حولها الاغراب لركوب ظهور قادات الجيش المنبطحين دمار للوطن و المواطن في حالة من اشد حالات الذل و العار في تاريخ الشعوب

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..