الحكاية الشعبية السودانية.. إرث ثقافي يواجه خطر المحو

بدأت مؤسسة جُلي لفنون الحكي، وهي مؤسسة سودانية، مقرها في الخرطوم سابقاً، وحالياً في القاهرة، منذ العام الماضي، تدريب الشباب على فنون السرد، حفاظاً على التراث بصفته ناقلاً للتجارب الاجتماعية. فالحكاية السودانية كائن حي يتكيّف مع بيئته؛ فتأخذ طابعاً أسطورياً شمالاً، ونفحة صوفية غرباً، وملاحم بطولية جنوباً، بحسب مقولة الأديب عبد الله الطيب: “تنمو الحكاية كالشجر، تتغذى من بيئتها وتظل حية بالرواة والمستمعين”.
إلى جانب ذلك، تحمل الحكايات قيماً تربوية وتفسيرات للظواهر، وتحفظ الهوية في ظل التنوع العرقي. فلكل منطقة حكاياتها، مثل “أبو زيد الهلالي” في شمال السودان، أو أساطير “الدنقلاوي” في منطقة النوبة. ويعكس التنوع الجغرافي أيضاً تنوع الحكايات؛ ففي الريف، ترتبط بالزراعة وحيوانات البر، كحكاية “الأرنب والضبع”. وفي الصحارى، تسود حكايات الرحالة، بينما تختلف حكايات الجنوب بقبائله، مما يشكّل تراثاً غنياً يصعب جمعه.
أسطورية في الشمال، صوفية في الغرب، وبطولية في الجنوب
وفي ظل التحولات الثقافية في السودان، تبرز الحكاية الشعبية مرآة للهوية وجسراً بين الأزمنة، في مواجهة تحديات العولمة والرقمنة. وهي تنشأ كظاهرة تحمل جوهر الوجود الجمعي، ورغم التحديات المعاصرة، تبقى جسراً بين الماضي والحاضر، سواءً بالسرد الشفهي، أو محاولات التوثيق الحديثة.
وحول منهجيات بحث وكتابة التراث، أقام مشروع “صون تراث السودان الحي” ندوته الأولى في الثاني من الشهر الجاري، قدمها الباحث ميرغني ديشاب، أحد أبرز المتخصصين في الأنثروبولوجيا بشمال السودان، وصاحب أعمال مهمة في توثيق الشعر والحكايات الشعبية، مع تركيز خاص على السرديات المجتمعية والحكايات التقليدية.
المشافهة والتدوين
ليست المشافهة مجرد نقل قصص، بل هي طقسٌ وجودي؛ فعندما تحكي الجدة للأحفاد، تخلق عالماً موازياً يصبح السرد فيه إبداعاً مشتركاً. وتتسم لغة السرد باستخدام اللهجات السودانية المحكية بطلاقة، مع إدراج الأمثال الشعبية والتشبيهات المستمدة من البيئة المحلية، مما يمنح الحكاية نكهة خاصة وقرباً من الحياة اليومية للناس. نجد أيضاً إيقاعاً مميزاً في الطرح، مع تكرار بعض العبارات مثل: “كان يا ما كان”، أو جمل مفتاحية أخرى لتعزيز التشويق وتثبيت الأحداث في الأذهان.
تمتزج في هذه الحكايات العناصر الواقعية بالخيال العجائبي، فتظهر شخصيات مثل الجن والعفاريت، أو حيوانات تتكلم وتتصرف كالبشر، مما يضفي عليها طابعاً أسطورياً ساحراً. وعادة ما تتبع القصص بنية درامية تقليدية، تبدأ بالمقدمة التي تعرض الشخصيات، ثم تتصاعد الأحداث نحو الذروة، لتصل إلى الحل الذي يحمل في طياته عبرة أو حكمة شعبية.
من بين الكتب المهمة التي وثّقت هذه الحكايات كتاب “حكايات شعبية من السودان” لعبد المجيد عابدين، الذي يقدم مجموعة من القصص التقليدية التي تجسد روح المجتمع السوداني بأسلوب شيق. كما يبرز كتاب “التراث الشعبي السوداني: حكايات وأساطير” لسيد أحمد محمد الحسن، حيث يغوص في الأساطير والحكايات العريقة، مبرزاً أبعادها الاجتماعية والثقافية.
ولا يمكن إغفال كتاب “حكايات من السودان: ذكريات وخرافات شعبية” لفدوى عبد الرحمن علي طه، الذي يركّز على الحكايات المروية، خاصة تلك التي تحكيها النساء، مما يضيف بعداً أنثروبولوجياً مهماً لهذا التراث الشفهي.
وفي عصر التكنولوجيا، ظهرت مبادرات لرقمنة الحكايات الشعبية، مثل التسجيلات الصوتية، حيث تقوم بعض المؤسسات بتسجيل حكايات كبار السن وحفظها في أرشيفات إلكترونية، أو عبر منصات إلكترونية مثل موقعي “سودانايز” و”حكايات سودانية”، اللذين ينشران الحكايات بصيغة نصوص أو فيديوهات. بل وحتى عبر تطبيقات تفاعلية، حيث يصمم بعض المطورين تطبيقات تحتوي على حكايات مسجلة بصوت الرواة الأصليين. لكن الرقمنة تواجه تحديات، مثل ضعف الإنترنت في المناطق الريفية، وعدم إتقان كبار السن التكنولوجيا، مما يعوق مشاركتهم.
العربي الجديد



