مقالات سياسية

حين تنظر الدولة إلى نفسها ولا ترى شيئاً

علاء خيراوي

في زمن الهزيمة، لا يكتفي الرديء بالصعود، بل يُستدعى إلى المسرح بإضاءة خاصة، ليؤدي ببراعة دور الكومبارس السياسي في مشهد وطني تراجيدي.

فبينما كانت البلاد تترنّح تحت وطأة الحرب والانهيار، وقلوب الناس تبحث عن رجل يُمسك بخيوط الدولة من حوافّ اليأس، خرج علينا الدكتور كامل إدريس، رئيس حكومة بورتسودان المعيّنة، ليمنحنا جملة ستُدوَّن في دفاتر الهذيان السياسي طويلاً “الآن أم درمان أفضل من باريس، في الجانب الأمني”. قالها بوجه جامد، وبصوت واثق، وكأن الخراب قابل للمقارنة، وكأن الدم الذي يسيل في الشوارع قابل للقياس بمعايير النظم البلدية في العاصمة الفرنسية.

كانت لحظة منتظَرة للصراحة، فإذا بها لحظة للإفلات من الواقع. كان الظرف يتطلب خطابَ رجل دولة، فإذا بنا أمام خطاب موظف علاقات عامة.

كامل إدريس لم يخاطب شعبًا ناضجًا خَبِر المحن، بل خاطب جمهورًا افتراضيًا من الأطفال، كما تُخاطب الحضانة بقصص ما قبل النوم. لكنه نسي أن الشعب السوداني لا ينام، لأن القذائف لا تنام، ولأن الحلم لم يعد يتّسع لمدينة
.تقارن بأخرى وهي تحت الركام

فليته قال “نطمح لأن تكون أم درمان في يوم من الأيام كبرلين أو كيب تاون”، لكان في الأمر أمل. لكنه قرّر قلب المشهد، فوضع أم درمان، بكل ما فيها من دمار ودموع وفقر وحوجة على منصة التفوّق الكاذب. لم تكن هذه مقارنة أمنية، بل كانت فضيحة لغوية وأخلاقية.

ثم ما معنى الأمن إن لم يُترجم في بقاء العائلات في منازلها، وعودة الأسواق إلى نشاطها، وسير الحافلات في خطوطها، وفتح المدارس في مواعيدها، واستقرار الكهرباء والمياه في جداولها؟ أمن لا تلمسه أقدام النازحين ولا قلوب الأمهات، هو أمن في مخيلة الحاكم لا في حياة المحكوم.

لو كانت باريس تنطق، لرفعت دعوى تشهير ضد المقارنة. ولو كانت أم درمان تملك محامياً، لطالبت بحذف اسمها من هذه الجملة. لأن ما قيل لا يندرج في خانة الخطأ، بل في خانة الخيانة للمعنى. الجملة لم تكن زلة لسان، بل قمة جبل الجليد في سردية الرجل، تسويق الخراب بلغة السيادة، وتجميل الموت بطلاء الحداثة، ورفع الشعارات في بلد جفّت فيه الشعارات وانكسرت تحت أقدام النازحين.

إن أخطر ما في هذه المقارنة ليس مضمونها، بل توقيتها. فقد جاءت في ذروة انهيار سياسي شامل، وفي لحظة حساسة تُختبر فيها صدقية الحكومة أمام الشارع. والردّ لم يكن إصلاحًا، بل دعاية. لم يكن تواضعًا، بل عنجهية لغوية تُريد تجميل الخراب بمساحيق التوصيف البعيد عن الواقع

وحينما تحدث كامل إدريس عن “العودة إلى الخرطوم” في أكتوبر، فإنّه لم يفعل ذلك من موقع الفاعل، بل من خارج مشهد الدولة.

فالخرطوم اليوم، وإن كانت تحت السيطرة العسكرية المباشرة للجيش بعد انسحاب قوات الدعم السريع، إلا أنها لا تزال بلا مؤسسات مدنية، بلا حكومة فعلية، بلا جهاز إداري، ولا حتى رمزية سيادية يمكن أن تُشكّل أرضية لحكم أو مشروع. المدينة، كما هي، بقايا عاصمة تئنّ تحت أنقاضها، ويقودها العسكر بمنطق الطوارئ لا بمنطق السياسة.

ومع ذلك، يُطل إدريس علينا من القاهرة، ليبشّر بتخطيط شارع النيل وفق “أحدث النظم العالمية”، دون أن يخبرنا من سيقوم بذلك؟ بأي تمويل؟ وتحت أي غطاء مؤسسي؟ الخرطوم، كما يعرفها الناس، ليست لوحة هندسية فارغة تنتظر فرش الألوان، بل مدينة مثقلة بالدمار، بالمخاوف، وبالفراغ.

وما كنه هذا الطابور الخامس الذي يشتكي منه؟ وهل حقًا هذا الطابور يعيش في دهاليز الوزارات؟ أم أنه يتغلغل في شكل حكومات مدجنة، جُلّ أعضائها إما وافدون من المجهول، أو عائدون من منافي المال، أو سابحون في فلك الصفقات الدولية؟ الطابور الحقيقي لا يضع المتاريس في الطرقات، بل يضع المساحيق على وجوه الكارثة، ويبيع الشعب وهمًا منمقًا بلغة إنجليزية تُترجم على عجل في مؤتمرات الصالة.

في نهاية المطاف، هذه الحكومة لا تُراهن على الحلول الناجعة، بل على الوقت. لا تطرح مشروعًا، بل تستهلك ما تبقى من رصيد الدولة في وهم الإنجاز. وعبارة “أم درمان أفضل من باريس” لم تكن زلّة لسان، بل عنوانًا صريحًا لمرحلة تظن أن الكارثة يمكن أن تُغطى بالكلمات.

في السياسة، يمكن للخطاب أن يُزيّن العجز لبعض الوقت، ويمكن للعبارات المنمّقة أن تُخدر الأسماع، لكن لا شيء يصمد أمام الحقيقة حين تصعد من تحت الركام.

و”الحقيقة” اليوم تقول ما لا يقوله كامل إدريس، أن الخراب لا يُدار، بل يُواجَه. أن الخرطوم لا تعود بمواعيد مطاطية، بل بإرادة وطنية صلبة. وأن أم درمان، بكل مجدها وتاريخها، لا تحتاج إلى مقارنة عبثية مع باريس، بل تحتاج إلى كهرباء، وخبز، ودواء، وحكومة تفهم أنها ليست شركة علاقات عامة، بل أداة إنقاذ لوطن يحتضر.

هذا الوطن لا يحتمل المزيد من الخُطب الوردية، ولا وعود الهواء، ولا “مارشالات” الوهم. السودان يحتاج إلى رجل يسمّي الدم دمًا، والفشل فشلًا، والعدو عدوًا. لا إلى موظفٍ أنيق يجيد تلميع السقوط.

فمن يبدأ مساره بحكايات عن أمنٍ في أم درمان يفوق باريس، لا يُنتظر منه أن يُقيم عدلًا في القضارف، أو يُطعم نازحًا في الفاشر، أو يُطفئ حريقًا في الجزيرة.

لقد سقط القناع، وما عاد الوهم يُقنع، ولا التصفيق يُجدي. وهذا الشعب، وإن صبر طويلًا، فإنه يعرف متى يُسقِط المسرح على مَن فوقه.

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..